هل يمكن القول إن 2019 كان عاماً مبشراً بالسلام للخليقة كلها وربما خلافاً لسنوات وربما عقود سابقة؟
وجاءت وثيقة الأخوّة الإنسانية التي وقعت برعاية الإمارات العربية المتحدة، وعلى أرضها في فبراير الماضي لتوجه دفة الإنسانية في مسارات ومساقات مغايرة لعالم الخصام والكراهية الذي تئن منه البشرية الآن.
لم يكن الحدث اعتيادياً انطلاقاً من رغبة قلبية صادقة عند رجلين طيبين في زمن صعب، البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية، وفضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، وكأني بهما يعيدان سيرة زمانية وحدثاً تاريخياً مضى عليه ثمانية قرون، حين التقى على أرض دمياط في بر مصر المحروسة فرنسيس الإسيزي المتصوف الإيطالي الأشهر، مع الملك الكامل سلطان مصر، ومن يومها انطلقت في الآفاق دعوة للحوار لا يزال صداها يتردد في قلوب وعقول اتباع الأديان، من أجل عالم أكثر سلام وطمأنينة.
لم تكن وثيقة الأخوة الإنسانية حدثاً بروتوكوليا، بل إيمان صادق بأن الخيرين قادرون على تغيير العالم، ولهذا لا ينفك فرنسيس يتحدث عن الوثيقة بل ويركز على محتواها النبيل.
قبل بضعة أيام وجه فرنسيس وبالشراكة مع الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريس، رسالة مصورة مشتركة على عتبات العام الجديد يحضان فيها البشرية من أدناها إلى أقصاها على التسامح الديني وحماية البيئة، وذلك عقب لقاءهما في حاضرة الفاتيكان.
خلال اللقاء قدم البابا فرنسيس نسخة من الوثيقة إلى رأس الهيئة الأممية، والذي أشار إلى أن هذا النص «هام للغاية»، لا سيما والعالم يعيش في سياق أزمات الإرهاب والاعتداء على المؤمنين وتقليص حرياتهم، وتهديد أمنهم كما جرى في نيوزيلندا وسيرلانكا العام الجاري. في اللقاء عينه كان فرنسيس يؤكد على أنه «لا يجب أن نحيد بنظرنا إلى الاتجاه الآخر، عندما يتعرض مؤمنون من مختلف الديانات للاضطهاد في أنحاء مختلفة من العالم، لا يمكننا ذلك».
كلمات الأمين العام غوتيريس بعد اللقاء تبين لنا أن وثيقة الإخوة الإنسانية قد حركت الكثير من المشاعر الإنسانية الراقية والخلاقة، في نفوس الكثيرين، ولهذا لفت الرجل إلى أن الأمم المتحدة بدورها أطلقت خطة عمل لحماية المواقع الدينية واستراتيجية لمكافحة خطاب الكراهية.
جاء لقاء الأمين العام للأمم المتحدة والبابا فرنسيس على بعد مسافة زمنية قصيرة جداً من إصدار البابا فرنسيس رسالته السنوية التي تصدر في الأول من يناير من كل عام، بمناسبة «يوم السلام العالمي»، والتي تجيء عام 2020 تحت عنوان «السلام كمسيرة للرجاء: حوار ومصالحة وتوبة بيئية».
يذهب البابا فرنسيس في رسالته إلى أن السلام قيم للغاية، وهو مقصد رجائنا، الذي تتطلع إليه البشرية جمعاء، وترجي السلام هو موقف بشري يحتوي على توق وجودي.
غير أن محنة النزاعات المدنية والدولية الرهيبة، والتي غالباً ما تتفاقم بسبب العنف الجائر، فتترك بصمتها في جسد وروح الإنسانية لفترة طويلة، فكل حرب في الواقع تتضح أنها إبادة جماعية تدمر مشروع الأخوة ذاته، الذي تتضمنه رسالة الأسرة البشرية.
يلفت البابا فرنسيس في رسالته إلى أمر مثير، وهو أن عالمنا المعاصر يعيش انقساماً شاذاً يظهر رغبته بأن «يدافع» عن الاستقرار والسلام ويضمنهما على أساس أمان زائف يرتكز على عقلية الخوف وانعدام الثقة التي تؤدي إلى إفساد العلاقات بين الشعوب ومنع أي حوار ممكن. مع أن السلام والاستقرار الدولي يتعارضان مع أي محاولة لبناء علاقات على أسس من الخوف من تدمير متبادل أو على التهديد بإبادة تامة، فلا يمكن تحقيقهما إلا من خلال أخلاقيات عالمية من التضامن والتعاون، في خدمة مستقبل يرتكز على الاعتماد المتبادل والمسؤولية المشتركة في الأسرة البشرية بأكملها اليوم كما في الغد.
ما الذي يحتاجه العالم من أجل سلام حقيقي؟ بحسب الرسالة البابوية، فإن العالم لا يحتاج إلى كلمات فارغة، بل إلى شهود راسخين في قناعاتهم، وإلى صانعي سلام منفتحين على الحوار دون استثناء أو تلاعب. والشاهد أنه لا يمكن الوصول إلى السلام حقاً ما لم يكن هناك حوار حقيقي بين الرجال والنساء الذين يبحثون عن الحقيقة، أبعد من الأيديولوجيات والآراء المختلفة. فالسلام ينبغي أن يبنى باستمرار، إنه مسيرة نقوم بها معا ساعين دائماً إلى الخير العام وعاملين على الوفاء بالكلمة التي نعطيها وعلى احترام القانون، فمعرفة الآخرين وتقديرهم ينموان أيضاً عبر الإصغاء المتبادل، لدرجة أن ترى في العدو وجه أخ.
وصية «فرنسيس» الفقير وراء جدران الفاتيكان، هي أنه علينا أن نعمل من أجل الأخوة الحقيقية، التي تبنى على أساسها المشترك في الله، والتي نمارسها عبر الحوار والثقة المتبادلة. الرغبة في السلام مدرجة بعمق في قلب الإنسان، ولا يجب، نقبل بأقل من ذلك. إنه زمن الميلاد وفيه تدفن الحرب وينبت الحب.
*كاتب مصري