ماذا يجري في الولايات المتحدة؟ ليس السؤال جديداً. طُرح هذا السؤال في عام 1995 عندما قام مواطن أبيض يدعى «تيموثي ماك فاي» بتفجير مبنى حكومي في مدنية أوكلاهوما وأدى ذلك إلى مقتل 168 شخصاً. لم تكن تلك الجريمة منعزلة. كانت رداً انتقامياً -كما كشفت التحقيقيات الأميركية الرسمية- على قيام السلطات الحكومية بعمليتي اقتحام مسلح لمركزين من مراكز العنصريين البيض في كل من مدينة واكو ومدينة ايداهو في ولاية تكساس.
إثر ذلك شمّرت السلطات الأميركية عن ساعديْها استعداداً لمواجهة تداعيات الصعود الإرهابي للعنصريين البيض؟ غير أنه وقع ما لم يكن في الحسبان. ففي عام 2001 وقعت الجريمة التدميرية التي استهدفت مبنييْ التجارة العالمية في نيويورك. كان على رأس الدولة الأميركية في ذلك الوقت جورج بوش الابن، وهو من تكساس. يومها أعلن أولاً الحرب على الإرهاب، وأعلن ثانياً أن الإسلام هو الإرهاب.
وهكذا نقل اهتمام قوى مكافحة الإرهاب في الداخل الأميركي من تجمعات ومعسكرات العنصريين البيض، إلى المساجد والمصليات في مدن الولايات المتحدة.
بلغ عدد عناصر هذه القوى 2000 رجل تولى 330 عنصراً منهم مراقبة العنصريين البيض في كل مدن الولايات المتحدة. وتفرّغ الباقون (1670عنصراً) لمراقبة المساجد. وكانت النتيجة أنه لم يُعتقل أي إرهابي. ولكن تعرض عدد من المساجد إلى الاعتداء ودُمّر بعضها. وقُتل بعض المصلين. وكان العنصريون البيض وراء تلك العمليات، ولكن لم يحاكم أحد منهم، لأن الفاعل ظلّ مجهولاً.
تراجعت هذه الموجة العنصرية في عهد الرئيس باراك أوباما. ولكنها تفجّرت من جديد بعد انتهاء ولايته، ثم وجدت في سياسة الرئيس دونالد ترامب متنفساً معنوياً لها. لقد كان انتخاب رئيس من أصول أفريقية بمثابة تأجيج لغضب العنصريين البيض الذين سارعوا إلى تفجير هذا الغضب المكبوت مع وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض.
لم تكن السلطات الأميركية غافلة عما يحدث. فقد جرت دراسات استقصائية وأعدّت تقارير حول هذا الموضوع. منها تقرير أعده مركز «ميسوري للمعلومات» جرى تسريبه في عام 2009 وفيه يقول: «إن عناصر ميلشياوية تابعة» لحركة التسلح الحديث «ترتبط بجماعات أصولية مسيحية وبجماعات معارضة للإجهاض، وأخرى معارضة للهجرة تتجمع في تنظيم مسلح واحد، مما يعني أنها بصدد القيام بأعمال إرهابية».
وأعدّت المخابرات السرية في الولايات المتحدة تقريراً آخر يقول إن اليمين المتطرف في صعود، وإن المتطرفين الأعضاء في الحركات اليمين المتشددة يستغلون الصعوبات الاقتصادية، كما يستغلون وصول أوباما إلى السلطة لاستقطاب المزيد من العناصر الناقمة، وكان عنوان التقرير «الحركة الميليشياوية الحديثة». ولكن تجاهل التحذيرات التي تضمنتها هذه التقارير أدى إلى وقوع سلسلة الأعمال الإرهابية التي هزت الأمن الداخلي الأميركي وأدت إلى مقتل العشرات مؤخراً في حادثين منفصلين وقعا في مدينتي دايتون وال-باسو، والمدينتان تقعان في ولاية واحدة، هي تكساس!
من السذاجة الاعتقاد بأن الرئيس ترامب يحرّض على الكراهية العنصرية، وبالتالي فإنه مسؤول عن جرائم القتل الجماعي التي وقعت. فالوقائع تثبت أن العنصرية موجودة قبل ترامب. وقد استقوت باعتلاء رئيس من أصل أفريقي (أوباما) البيت الأبيض، أكثر مما استقوت بوصول الرئيس الأبيض (ترامب). وقد سبق أن حذر عالِم الاجتماع الأميركي صمويل هنتجنتون قبل وفاته منذ أكثر من عشر سنوات، من احتمال انفجار صراع عنصري في الولايات المتحدة بين البيض ألإنجيليين والسمر الكاثوليك (المتحدرين من أصول أميركا الجنوبية).
وما يحدث الآن في الولايات المتحدة يشير إلى خطورة هذا الانفجار. تقول الدراسات الإحصائية الأميركية أن عدد الهجمات الإرهابية التي شنّها العنصريون البيض تزيد ثلاثة أضعاف عن تلك التي اتُهم بارتكابها متطرفون إسلاميون منذ 11 سبتمبر 2001.
وتقول هذه الدراسات أيضاً أنه من عام 2009 حتى عام 2018 تسبب العنصريون البيض في مقتل 73 بالمائة من الضحايا؟ وفي العام (2018) وحده قُتل على يدهم 49 شخصاً. وهو أعلى رقم للضحايا منذ جريمة أوكلاهوما في عام 1995. مع ذلك فإن 20 بالمائة فقط من عناصر مكافحة الإرهاب في الولايات المتحدة مكلفون بمراقبة نشاط الحركات العنصرية من الأميركيين البيض. تقول دراسة علمية حول جرائم القتل الإرهابية، إن المجرم هنا لا يقتل من أجل القتل، ولكنه يقتل من أجل التأثير، التأثير العقائدي أو السياسي. هكذا حاول الإرهابيون في الشرق وفشلوا، وهكذا يحاولون في الغرب، فهل يفشلون؟