أخيراً حسم أمر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكست» لينتهي الجدل العقيم الذي استمر عامين ونصف، إذ حسم فوز «المحافظين» بأغلبية ساحقة في مجلس العموم البريطاني في الانتخابات التي جرت منتصف شهر ديسمبر الجاري، تلك القضية التي استحوذت على اهتمام البريطانيين وأدخلتهم في مرحلة من عدم اليقين.
الآن اتضحت الرؤية، فرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون سيفي بوعده، ويعلن خروج بريطانيا من الاتحاد بحلول 31 من شهر يناير 2020 والذي ستتمخض عنه قضايا أخرى معقدة للغاية، سواء مع بروكسل حول شروط الخروج أو في نطاق المملكة المتحدة نفسها، حيث طالب الحزب القومي الإسكتلندي الحكومة بمجرد إعلان نتائج الانتخابات بإجراء استفتاء جديد لانفصال اسكتلندا عن المملكة وانضمامها بصورة منفردة إلى الاتحاد الأوروبي.
من جانب آخر تطالب أيرلندا الشمالية، وهي الجزء الرابع المكون للمملكة بحلول للأضرار التي ستتحملها والناجمة عن عملية الخروج، إذ أن تجارة بريطانيا مع الاتحاد يمر جزء كبير منها عبر حدود الأيرلنديتين الجنوبية والشمالية، وهو ما سيفقد الشمال أربعة مليارات دولار سنوياً على شكل رسوم وخدمات لوجستية وأنشطة تجارية متعددة.
هذا على المستوى الاتحادي والبريطاني، أما على مستوى العلاقات الاقتصادية والتجارية للمملكة المتحدة، فإنها ستشهد إعادة هيكلة عميقة، إذ أن ذلك ما يهم العديد من دول العالم، وبالأخص دول مجلس التعاون الخليجي التي ترتبط بعلاقات تاريخية وتجارية ومصالح استثمارية كبيرة مع لندن، فالولايات المتحدة الأميركية، والتي تعتبر أحد أهم شركاء بريطانيا التجاريين أعلنت على لسان الرئيس دونالد ترمب فور إعلان النتائج بأنها ستسعى لتوقيع اتفاقية للتجارة الحرة مع بريطانيا بأسرع وقت ممكن، مما سيمنح الطرفين تسهيلات كبيرة لزيادة التبادل التجاري بينهما، وهو ما سيعوض المملكة المتحدة عن بعض التسهيلات التي كانت تتمتع بها بحكم عضويتها في الاتحاد الأوروبي.
في نفس الوقت، فان كل من بروكسل ولندن تعيان جيداً أهمية المحافظة على علاقات اقتصادية وتجارية مزدهرة بين الجانبين، وهو ما أكدت عليه كل من الملكة إليزابيث والمستشارة انجيلا ميركل في كلمتين منفصلتين، علما بان توقيع بريطانيا لاتفاقيات جديدة للتجارة الحرة مع أطراف أخرى سيغير الكثير من المعادلات.
في هذا الصدد يجب استغلال الفرصة المتاحة من قبل بقية الدول والتكتلات الاقتصادية للاستفادة من هذه التطورات، فدول مجلس التعاون عليها أن تسعى وبسرعة لتوقيع اتفاقية للتجارة الحرة مع المملكة المتحدة، وذلك بعد أن تعرقلت على مدى ثلاثين عاما الجهود الرامية لتوقيع مثل هذه الاتفاقية بين مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي بسبب إدراج كل من ألمانيا وفرنسا قضايا سياسية بعيدة عن جوهر الاتفاقية التجارية.
ومع أن مجلس التعاون الخليجي ليس في أحسن حالاته، إلا أن توقيع مثل هذه الاتفاقية سيخدم كافة الدول الأعضاء في المجلس والتي تعاني صادراتها من البتروكيماويات والألمنيوم من رسوم جمركية مرتفعة وغير عادلة في دول الاتحاد الأوروبي، إذ أن توقيع هذه الاتفاقية للتجارة الحرة مع لندن سيفتح قدرات تسويقية لأهم صادرات دول المجلس.
هنا يمكن تجاوز حال المجلس الحالية من خلال تخويل الأمين العام الجديد وبالتنسيق مع وزراء الاقتصاد بدول المجلس بإعداد وتوقيع هذه الاتفاقية، مما سيعد مكسبا كبيرا لدول المجلس ولبريطانيا على حد سواء، فالفرصة المتاحة الآن والناجمة عن بحث المملكة المتحدة عن شركاء تجاريين ضمن امتيازات تجارية للتعويض عن فقدانها لهذه الامتيازات التي حصلت عليها بفضل عضويتها للاتحاد ربما لا تكون متاحة بعد أن ترتب بريطانيا علاقاتها التجارية مع دول وتكتلات اقتصادية كبيرة، كالولايات المتحدة وربما تكتل «النافتا» فالوقت هنا يشكل أهمية كبيرة لاستغلال هذه الفرصة المهمة والمحددة بفترة زمنية أفرزتها ظروف البريكست. ونظرا لهذه التعقيدات الداخلية والخارجية، فانه من الصحيح أن طائرة البريكست برحلتها رقم 2020 ستقلع من بروكسل بتاريخ 31 يناير القادم باتجاه لندن، إلا أنها ستواجه في طريقها مطبات هوائية، بعضها عنيف ومؤثر.
*مستشار وخبير اقتصادي