في 4 ديسمبر الماضي، عقب مقتل 13 جندياً فرنسياً في مالي، في حادث تصادم بين طائرتي هليكوبتر أثناء مهمة قتالية، استدعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رؤساء دول الساحل الخمس لقمة في مدينة «بو» بجنوب غرب فرنسا، لاستجلاء موقف هؤلاء من التواجد العسكري الفرنسي في بلدانهم، لكن الأسلوب الذي اتبعه الأليزيه أثار حسب المتتبعين استياءً لدى الكثيرين في القارة السمراء، إذ شعروا بأنّ ما صدر عن الرئيس الفرنسي هو أقرب إلى «استدعاء» رؤساء دول تتفاقم فيها أصلاً مشاعرٌ مناهضةٌ لفرنسا.
وقال ماكرون، مؤخّراً: إنّ بلاده لا تستطيع مكافحة الإرهابيين بمفردها في منطقة الساحل، حيث ينتشر 4500 عسكري فرنسي في إطار قوة «برخان»، مطالباً قادة دول مجموعة الساحل الخمس (مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد وموريتانيا) بـ«التزام سياسي واضح‏»، وأردف في مناسبة أخرى: «لا يمكنني مطالبة جنودنا بالمخاطرة في سبيل مكافحة الإرهاب، وضمان أمن هذه الدول، بينما هناك رأي عام في هذه الدول مقتنع ببعض الأكاذيب».
والواضح أن فرنسا بدأت تشعر بخطورة الرياح المناهضة لها في المنطقة، وبعد ست سنوات من التواجد المتواصل لقواتها العسكرية، وسقوط 41 قتيلاً من رجالها، ما تزال هناك عمليات إرهابية في شمال ووسط مالي، وقد وصلت إلى بوركينا فاسو والنيجر المجاورتين، فهذه الدول ضعيفة، ومؤسساتها الأمنية غير قادرة تماماً على حماية الحدود، ولا على محاربة الحركات الإرهابية العابرة للبلدان والقارات.
وإذا كان التدين الصوفي الشعبي هو الحاضر منذ القدم في تلك المجتمعات، ولعوامل تاريخية، فإن التيارات المتشددة بدأت تطرق أبواب تلك الدول بطريقة مثيرة، إلى أن وصلتها الجماعات والحركات الإرهابية القادمة من شمال الصحراء الكبرى، وهي تيارات لم تعهدها في السابق دول كالنيجر وبوركينا فاسو، حيث يسود المذهب السني المالكي، وينتشر التصوف (القادري والتيجاني..).
ولا يخفى على المتابع لأحوال الدول في هذه المنطقة الجغرافية الحساسة الممتدة بين ليبيا وتشاد ومالي والنيجر وبوركينا فوسو، أنها تعاني من نقص التمثيل الديمقراطي، ومن ضعف الإمكانيات الاقتصادية، كما تفتقر للحضور الأمني الفعال داخل المدن وعلى الحدود.. ما جعلها فريسة للتنظيمات الإرهابية التي بدأت تنظر إليها كمنطقة صالحة للاستيطان واستقطاب البشر.
كما أن هناك ميزة تنعم بها التنظيمات الإرهابية في هذه المنطقة الشاسعة، خلافاً لأخواتها في سوريا والعراق، وهي كونها تستفيد من عائدات الاتجار بالمخدرات والأسلحة والبشر.. في إطار علاقات متداخلة وأخطبوطية مع منظمات الجريمة الدولية، ومع قبائل وإثنيات في مالي والتشاد.. وهي تجارة تدر على التنظيمات الإرهابية، حسب مكتب الأمم المتحدة لشؤون المخدرات والجريمة، نحو أربعمائة مليون دولار سنوياً، مما جعل تلك الدول منطلقاً آمناً للمخدرات نحو أوروبا عبر غرب أفريقيا، وليتم بيع الأسلحة التي تأتي بحراً إلى بنين وتوغو في كل دول المنطقة.
هذا الوضع المؤلم الذي تعانيه منطقة الساحل الأفريقي، سيستمر لوقت قادم، بسبب تنامي التنظيمات الإرهابية، وهو أمر ما كان ليحدث لولا غياب الدولة في ليبيا، فهناك تداخل قوي بين الانفلات الأمني وظهور «الدواعش» وانتشار الفوضى في ليبيا، وبين ما يجري في منطقة الساحل وغرب أفريقيا.
ولم يمنع التواجد العسكري لفرنسا، ذات التاريخ الاستعماري القديم في المنطقة، من استمرار الإرهاب وانتشاره، والذي سيحدث مع مرور الزمن شرخاً كبيراً في كينونة الأجيال ومستقبلها. والإشكال الكبير بالنسبة لفرنسا، هو أن هذا الإرهاب لا يصيب فقط الدول المعنية، ولكنه أيضاً يطال قواتها العسكرية ومصالحها الاستراتيجية هناك، وهو ما حاول الرئيس الفرنسي تفنيده عندما قال مؤخراً: «فرنسا ليست هناك لتحقيق أهداف إمبراطورية (..) لن أسمح بأن يهاجَم جنودنا بمثل هذا النوع من الحجج‏».

*أكاديمي مغربي