إذا كانت موسكو تبدي قلقاً من تدخل عسكري تركي في ليبيا، وأنقرة تعلن أنها لن تبقى صامتة إزاء «مرتزقة تساندهم روسيا» في ليبيا، فهذا يعني في أقل تقدير أن أي تفاهمات روسية- تركية في سوريا لا تسري على الشأن الليبي. فعلامَ يستند رجب طيب أردوغان في إحداث هذه البلبلة المتوسّطية؟ هل لديه على الأرجح ضوء أخضر أميركي؟ فطالما أن واشنطن أبلغت المشير خليفة حفتر رسمياً أنها ترفض تدخلاً روسياً إلى جانب قواته، وطالما أن أي دولة غربية معنية بليبيا، كإيطاليا وفرنسا وبريطانيا، لا تريد التدخل مباشرةً، وطالما أن تركيا كانت احتجّت مراراً على استبعادها من «منتدى الغاز المتوسطي»، الذي ترعاه واشنطن وراحت تتهيأ للتنقيب في مياه «قبرص التركية» متذرّعة بـ «حقوقها ضمن حدودها البحرية». فقد اجتمعت جملة ظروف لكي تجيز واشنطن دوراً تركياً في ليبيا خصوصاً أن الأخيرة كانت شرعت في التدخل منذ شهور في إطار اتفاق مع قطر، لكن موافقة الجانب الأميركي استهدفت تحديداً إقامة توازن مع التدخّل الروسي.
هكذا يتوغّل أردوغان أكثر فأكثر في لعبة التعامل المتوازي بين الولايات المتحدة وروسيا، مستنداً إلى توافقات معهما وخلافات بينهما، ومعتقداً أن موقع تركيا وحجمها وقوّتها وحاجة الدولتين إليها سترشّحها لأن تكسب على الجهتَين. ولذلك فهو يتجاهل هزّ الأوروبيين كرسي تركيا في «الناتو» ما دامت أميركا مصرّة على وجوده في الحلف رغم الخلاف الجدّي على مسألتَي الصواريخ الروسية «إس 400» والمقاتلة الأكثر تطوّراً «إف 35». وفي المقابل يوحي لموسكو بأنه مستعد للذهاب أبعد ما يمكن عن المعسكر الغربي، إلى حدّ التهديد بإغلاق قاعدتي إنجرليك وكورجيك أمام الأميركيين إذا ما تواصلت عقوبات الكونجرس والاتحاد الأوروبي على تركيا، وفي باله طبعاً أن قبول روسيا حالياً بالمصالح التركية في سوريا لا بدّ من أن يدعّم بإغراءات استراتيجية من النوع الذي يتطلّع فلاديمير بوتين إلى تحقيقه في منطقة «أميركية»، وتعطي واشنطن إشارات متزايدة بأنها تغادرها.
هذا هو الجزء العائم من الدوافع التي تجعل الرئيس التركي يفتعل توتّراً إقليمياً ربما يعلم مسبقاً أنه لن يؤدي إلى أهداف كبيرة، لكنه يأمل في أن يثمر ضغطه وتهوّره حصةً ما في الثروة البحرية المتوسّطية. وعلى هذه الخلفية وقّع اتفاقات مع رئيس «حكومة طرابلس»، إذ شكّلت من جهة فرصة لتفعيل «الحقوق البحرية»، وهذا موضع توافق داخل تركيا رغم المبالغة المكشوفة في تضخيم الذرائع القانونية تحت عنوان «الحدود البحرية»، لكنها قدّمت من جهة أخرى لـ «حكومة طرابلس» أو بالأحرى لـ «ميليشيات طرابلس» فرصة جديدة لإطالة الأزمة وإدامة سيطرتها وتمكينها من مواصلة مصادرتها للعاصمة وادّعاء السيطرة على ليبيا وحكمها. هنا يظهر البُعد «الإخواني» الكامن دائماً في ذهن أردوغان، فهو معني منذ سقوط جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر بدعم أي بدائل في أي مكان، وقد حاول ذلك باستمالة نظام عمر البشير وتحريضه في السودان، وكان داعماً مبكراً لتمرّد الميليشيات وسيطرتها على طرابلس غداة انتخابات 2014 وسقوط «الإخوان» فيها.
لم يكن أداء «الإخوان» في طرابلس هو الذي ساعد أردوغان على بناء سياسة خاصة بليبيا، بل كانت لتركيا مصالح تجارية كبيرة أسستها مع النظام السابق وسعت لاحقاً إلى الحفاظ عليها أو على الأقل تصفيتها بأقل الخسائر، وحين استولت الميليشيات على طرابلس وجدت أنقرة أن الظروف مناسبة لـ«عصافير» عدّة «بحجر واحد»، إقليمياً لتحدي مصر والثأر منها، وسياسياً لتمكين «الإخوان»، وتجارياً لضمان المصالح في المرحلة المقبلة. لكن ما ساعد تركيا-أردوغان فعلاً كان تذبذب المجتمع الدولي، وبالأخص عدم الوضوح الأميركي في إدارة الملف الليبي. ولا تزال واشنطن حتى الآن تدير الأزمة وفقاً لقاعدتين: أولاً، لا حسم عسكرياً لأي طرف. وثانياً، لا حلّ عسكرياً إلا بتوافق أطراف الأمر الواقع على «تقاسمٍ» للسلطة.
ما حصل أخيراً أن ميزان القوى راح يختلّ داخل ليبيا، وسيزيده التدخّل التركي «الرسمي» اختلالاً وفوضىً إقليمية ودولية. غير أن الخلل الأهم ظهرت ملامحه غداة تنصيب ما تسمّى «حكومة الوفاق» واعتبارها «الحكومة الشرعية» من دون إلزامها بشروط واضحة وجدول زمني محدّد كي تكون «وفاقية» فعلاً. لكن ميليشيات «الإخوان» وحلفاءهم سيطرت باكراً جداً على هذه الحكومة واستثمرت في «شرعيتها» الدولية، بل أملت عليها الشروط التي منعتها من أن تكون «حكومة وفاق»، ومن أن تنفّذ «اتفاق الصخيرات» الذي نالت تلك الشرعية على أساسه.