احتفل العالم العربي الأسبوع الماضي باليوم العالمي للغة العربية، والذي يصادف الـ18 من شهر ديسمبر من كل عام، وهو يوم حددته الأمم المتحدة للاحتفاء بهذه اللغة العظيمة، بعد أن تم إدخالها ضمن اللغات الرسمية للمنظمة الدولية، وهو أمر تحقق بعد جهود وضغوط دبلوماسية كبيرة قامت بها المجموعة العربية في الأمم المتحدة وعلى مدى عدة أعوام.
وما من شك في أنه لو تم استثمار التوجه العربي الجديد، وما يميزه من يقظة ووعي بضرورة الحفاظ على اللغة القومية، وإعطائها المزيد من العناية والاهتمام، فإن اللغة العربية ستنهض مجدداً وستخرج من إطارها الضيق الذي وُضعت فيه إلى إطار واسع تتفتح فيه إمكاناتها وتتحرر طاقاتها.
وتبدو مظاهر تلك اليقظة ومؤشراتها واضحة في الكثير من المؤلفات الأكاديمية والأبحاث الثقافية والتربوية والأنشطة الدولية (الحكومية وغير الحكومية) والمخرجات الإعلامية على اختلافها.. والتي أخذت جميعاً تطرح رؤى ومقاربات تدعو إلى النهوض باللغة العربية وإلى تمكينها في مجالات الثقافة والهوية والعلم والتعليم.. داخل أوطانها الأم وبين أبنائها وفي عقر دارها، من مواجهة التحديات التي تعترضها.
إن اللغة تمثل الوعاء الفكري والثقافي والحضاري الذي يحمل عقيدة المجتمع وثقافته وخصائصه الحضارية. والنهضة اللغوية كما يقول المستشرق الفرنسي «لويس ماسنيون»، هي نهضة اجتماعية شاملة تتطلع إليها شعوب الشرق المعاصرة، لأن اللغة من مقومات النهوض والتطور، لذلك حين خسرت فرنسا إمبراطوريتها الاستعمارية عوّضتها بإمبراطوريتها اللغوية متمثلة في اللغة والثقافة الفرنسيتين، حيث عملت بكل جهدها على التمكين لـ«الفرانكفونية» العالمية وجعلها تطلع بدور يضاهي الدور الذي كانت تقوم به الجيوش الفرنسية في العالم خلال فترات ماضية.
ولنا في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية مثال في الحفاظ على لغاتها القومية كجزء أساسي من أمنها الوطني، في مواجهة صعود اللغة الانجليزية. ومن ذلك نذكر تصريحات مشهورة لوزير الداخلية الفرنسي الأسبق «جان بيير شوفينمان» قال فيها إن «الاعتراف باللغات الجهوية (أي اللغات الست الموجودة في فرنسا)، معناه بلقنة فرنسا». وفي الولايات المتحدة نفسها قال «بوب دول»، مرشح الحزب الجمهوري لانتخابات عام 1996، إن أميركا بحاجة إلى «إسمنت اللغة لدعم وحدتها».
وفي المجال الأكاديمي، ذكر أستاذ الطب بجامعة الحسن الثاني المغربية البروفيسور الدكتور أحمد عزيز بوصفيحة، أن طلاب الجامعات المغربية الذين يدرسون العلوم بالفرنسية تبقى كفاءاتهم العلمية والمهنية دون مستوى الطلاب الفرنسيين الذين يدرسون بلغتهم الأم، داعياً إلى تدريس العلوم باللغة العربية، لرفع الكفاءة العلمية للخريجين المغاربة ولزيادة نسبة نشر المقالات العلمية التي لم تزد باللغة العربية عن 61 مقالاً منذ تأسيس الموقع العالمي المتخصص في نشر ومتابعة الدراسات العلمية عام 1996 مقارنة بالمقالات العلمية المكتوبة باللغة العبرية (2000 مقالة علمية) والمكتوبة باللغة الإنجليزية (400 ألف مقالة علمية).
إن التحديات التي تواجه اللغة العربية حالياً كثيرة، لاسيما أنها غابت عن كثير من مناهج التعليم، وتراجع دورها في الحياة الثقافية والاجتماعية والعلمية بصورة خطيرة.
أتمنى أن تكون اليقظة بأهمية اللغة العربية حافزاً ودافعاً لمواجهة التحديات والمصاعب التي تواجه هذه اللغة الغنية والعظيمة.