على غرار ما بناه المنافقون في صدر الإسلام من مسجد ضرار، جاءت قمة ضرار بكثير من التقاطعات، وإنْ تباعد الزمان لأربعة عشر قرناً، وأن احتملت قمة كوالالمبور قدراً هائلاً من السياسة، فأنها لم تخرج عن مضمون المناكفة وممارسة القفز العالي في الفراغ بمحاولة مكررة لخلق محور سياسي، لطالما كان حاضراً في الغرف المعتمة، كما لطالما كان فاعلاً بتأثيراته السياسية، وإنْ كان متوارياً عن الأعين.
في نوفمبر 2019 نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية وثائق سرية لاستخبارات قوة إقليمية حول اجتماع جرى عام 2014 بشأن المحاولات السرية من جانب تنظيم الإخوان المسلمين ومسؤولي هذه القوة للحفاظ على الاتصال، وتحديد ما إذا كان لا يزال بإمكانهم العمل معًا، بعدما تم عزل محمد مرسي من السلطة في مصر، المعلومات الواردة في الوثائق المسربة أن ممثل الإخوان طالب بالعمل ضد المملكة العربية السعودية باليمن من خلال توحيد صفوفهما (الإخوان والقوة الإقليمية)، في ظل «تشاركهما في كراهية السعودية».
تضمن الوثائق الاستخباراتية أن الاجتماع احتضنته تركيا، وأن الأتراك قد كانوا مشاركين في الاجتماع الذي حدد خطوات عملية بدأت في العاصمة اليمنية صنعاء بانسحاب كافة القوات العسكرية التابعة لتنظيم «الإخوان» ـ فرع اليمن ـ وتسليم المقرات والمعسكرات والعتاد العسكري للحوثيين، وحدث ذلك فعلياً في سبتمبر 2014 بسقوط صنعاء والمحافظات الشمالية من دون معارك، وإن كانت تلك الوثائق المسربة تفسر ما حدث في اليمن من انقلاب سياسي فأنها أيضاً تفسر العديد من الوقائع المماثلة في المناطق المضطربة عربياً وتكشف حقيقة «محور الشر».
الأجدر في قراءة (قمة كوالالمبور) تتمثل في فكرة خلق المحاور الموازية، وهذا هاجس من الهواجس الأساسية التي تدور فيها الدولة التي تتبنى منطق تصدير الثورة على اعتبار أنها ممثل للعالم الإسلامي، وكان ذلك مدفوعاً من تنظيم الإخوان المسلمين منذ إعلان التنظيم تأييده لهذه الدولة بإرساله وفداً يبارك نجاح «ثورتها»، ومن بعدها توازى العمل بين الطرفين بشكل مستمر وتم التعامل مع كافة التفاعلات السياسية وتوظيفها لخدمة مشروعات الإسلام السياسي كما حدث في الغزو العراقي لدولة الكويت 1990.
لم تُظهر هذه الدولة أو حتى تنظيم «الإخوان» نوايا الظهور العلني، حتى مع سيطرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على القرار السياسي في تركيا، واستدعائه للتاريخ العثماني، ودعوة أتباعه لعودة الخلافة في خطاب شعبوي تحول لحرب دموية مع ما سمي بـ«الربيع العربي» في 2011، وأن كان ذلك تحولاً حاداً لغاية أظهر الرغبة المدفونة في إسقاط الأنظمة الرئيسة في العالم العربي، وتوجهت السهام لصدر السعوديين والمصريين على اعتبار ما تمثله مصر والسعودية من ثقل سياسي في الشرق الأوسط والعالمين العربي والإسلامي.
اهتزت مصر في 2012 واستعادت دولتها الوطنية في 2013 بينما استطاعت السعودية بدعم من دولة الإمارات العربية المتحدة أن تشكل القوة المضادة لمشاريع التفتيت للكيانات الوطنية، وحافظت السعودية بالقدر الممكن على تماسك الدول، والأهم أنها استطاعت من خلال ما تمتلك من رصيد سياسي وعسكري واقتصادي ومن نفوذ دولي أن تحافظ على الكيانات المحورية المتمثلة في مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي كروافع سياسية، أو على أقل تقدير كأطر من خلالها تتمكن الدول الأعضاء من الاحتماء في الكيانات والمنظمات، ما أسهم بشكل فاعل في عدم تشكيل المحاور المضادة.
معروف أن هناك دولة واحدة تحديداً هي أكثر المندفعين لخلق المحور المضاد لمحور دول الاعتدال العربي وأظهرت ذلك بوضوح، وجاهرت بتصريحات كبار مسؤوليها بأنها ترغب في خلق محور سياسي تتمكن من خلاله لعب ما تراه في مصلحتها، وعملت على توظيف ذلك بشكل كامل من خلال إبرامها اتفاقيات سياسية وعسكرية مع النظامين التركي والإيراني في سياقات تفكيك منظومة مجلس التعاون الخليجي من جهة، وفي سياق فرض سياسة الأمر الواقع من جهة أخرى على المنطقة.
المسألة تتجاوز أيضاً شق الصف الإسلامي، فالتطورات التي أعقبت الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي والضغوط السياسية والاقتصادية على تركيا وإيران حددت قيام المحور المضاد سياسياً وعسكرياً، وستدخل المنطقة في مرحلة استقطاب مفتوحة بين محورين لا ثالث لهما محور الاعتدال العربي المكون من السعودية ومصر والإمارات، والمحور المعاكس (الضرار) المكون من تركيا، ومعها دولتان تناهضان محور الاعتدال العربي.
وفي سياسة المحاور سيتحول الصراع إلى كتل متدافعة ستحاول كل منها ممارسة الضغط على الأخرى في استعادة مجددة للحرب الباردة، لكنها لن تكون باردة إطلاقاً بل حارقة، لأن هناك محوراً لا يرى في توظيف الإرهاب وخطاب الكراهية غير أداة من الأدوات في محاولته تغيير التوازنات وكسر الضغوط الدولية عليه للخروج من المأزق، الذي فُرض عليه نتيجة سياساته التوسعية في المنطقة.
*كاتب يمني