الكثير من الناس، عرب وأجانب، طبّلوا للثورات العربية المزعومة قبل عدة سنوات مضت، متوهمين أنها طوق نجاة للشعوب المحبطة من خلال ما سمي في حينه «الربيع العربي»، ظناً منهم أنه سوف يحدث تغييراً في الدول التي عرفته، مستبشرين ببزوغ فجر جديد يطل على العالم العربي، يصلح شأنه ويدفعه للحاق بالركب ليصبح في مصاف الدول المتقدمة والمتنورة. لكن ما أن حلت الكوارث بالأقطار العربية بسبب هذه الثورات المزعومة وخريفها الأسود، حتى تكشفت النوايا واتضحت الحقائق وتحولت الأحلام إلى دماء.. لكن بعد أن تم إسقاط العديد من القيادات العربية الحاكمة، التي كانت تمسك خيوط اللعبة في دولها بشدة، وإن حافظت عليها كدول متماسكة وقوية وموحدة، ثم جاءت من بعدها حالة الفوضى العارمة لتشيع الخراب وتنشر الدمار، فيعم الفساد والنهب في تلك البلدان العربية بعد اختراقها وحرقها، ليبدأ تأجيج الصراع الطائفي والمذهبي والعرقي، ولتسقط هيبة الدولة الحاكمة، ويبدأ تهشيم الهوية الوطنية وخطابها باسم الشعب، وتنتشر الميليشيات المسلحة الممولة من داعميها الإقليميين والدوليين.. وكل ذلك لتفتيت الأقطار العربية وتقسيمها عبر بعض الوجوه والأقنعة المزيفة.
والآن تراجع كثير من الواهمين الذين فرحوا بذلك «الربيع العربي»، بعد أن رأوه يتحول أمام أعينهم إلى دمار عربي شامل بامتياز. لكن ها هو ربيع حقيقي يولد من رحم الأمة ومن طين أوطانها المعنية، يبشر بخير حقيقي دون لبس ولا تشويه. فالتظاهرات والاعتصامات الشبابية التي انتشرت في مدن العراق ولبنان ومدن بعض الجوار غير العربي، تعد ظاهرة جديدة إيجابية لم نشهدها منذ عشرات السنين.. فهي حراك جديد يافع نافع صالح للمستقبل، حيث خرج المتظاهرون بكل قومياتهم وطوائفهم ومذاهبهم، رافعين الأعلام الوطنية لدولهم، دون تسييس ولا طائفية ولا أدلجة ولا تدخل خارجي يشوه الصورة المضيئة.. شباب عُزّل يطالبون برحيل الغزاة والمحتلين ومحاسبة اللصوص والخونة والعملاء والفاسدين والدخلاء على بلدانهم، ممن نهبوا ثرواتها وشوهوا تاريخها. إنه «الربيع العربي» بحق، الربيع المفعم بالحيوية والشفافية والنقاء والصفاء والحماس والوطنية.. دون لبس ولا شوائب.. لا يدخله الغش ولا السحت، ولا تخالطه الأفكار المريضة بالإرهاب والتطرف والمناهج الشاذة المتربصة الطامحة لتمرير أجنداتها الخبيثة.
نعم، إنه فجر جديد يولد للتو في المنطقة يبشر بأمل صاعد يعيد للأمة تاريخها الناصع ومجدها التليد، ويكنس رايات العار والدجل، ويمرغ بالتراب أعلام الشعوذة والكره والبغضاء.. ليسجل هذا الأمل الجديد بسواعد الشباب وأبناء الوطن الغيارى، الذين سئموا الإحباط واليأس وطول الانتظار، بعد أن صمتوا طويلا، وتحملوا صنوف الذل والعار والخوف والفقر والجوع، من ممارسات الساسة الدخلاء على البلاد وحكمها، ممن مزقوا الأوطان وهرّبوا أموال الشعوب إلى الخارج لينعموا بها هناك، تاركين الشعوب تئن تحت عبء الفقر والعوز والحاجة والمهانة والمرض والأمية، بينما تشرذمت البلاد وهجرها العباد بسبب هذه السياسات التي استغلت مقدّرات الشعب والدول، لتعيث فيها فساداً وخراباً دون وازع.. مرتدِين عباءة الديمقراطية المهترئة وقد بان ما تخفيه وراء ثقوبها الكثيرة.
ويبدو أن الشباب العربي قال كلمته الفصل، فأدرك واستوعب كل أخطاء الفاسدين وأطماعهم، بعد أن كثُر ضحاياهم في كل مكان، ليطالب هذا الشباب المتحمسُ باقتلاعهم واجتثاثهم جميعاً بدون استثناء، لأنهم أصبحوا مصدر تهديد وخطر. هذا الشباب القادم الذي يطالب العالمَ بالوقوف معه لنيل الحرية والكرامة والمساواة، أدرك أن التاريخ لا يكتب إلا بماء الوطنية ولا يضاء إلا بمشاعر المحبة التي رأيناها في العراق ترفرف على أسطح «التكتك»!

*كاتب سعودي