بلغت الأحداث وتطورات المشهد الليبي في الأسابيع الأخيرة وضعاً غير مسبوق، ينذر بما هو أكثر فداحة وجسامة من الصراع الأهلي الدائر هناك منذ عدة سنوات، وقد يصل المشهد إلى انطلاق حرب جديدة تجعل من حوض البحر الأبيض المتوسط موقع وموضع صراع ملتهب. عدة أسئلة تواجه الباحث في المسألة الليبية، أهمها موقف المجتمع الدولي مما يجري هناك؟
سقوط النظام الليبي السابق تم بصورة غير نظامية لم تأخذ في الحسبان درجة الهشاشة المؤسساتية الليبية على كافة الأصعدة، ما يعني أنه لم تكن هناك رؤية لما بعد إبعاد الرجل الذي تربع أربعة عقود ونيف على مقعد السلطة.
غاب عن «الناتو» أن النسيج المجتمعي الليبي لم يكن قادراً على متابعة نشوء وارتقاء دولة بالمفهوم «الويستفالي» الحديث، وهي لا تزال تعيش في السياق القبلي، ولم تقترب من حدود التنظير الديمقراطي الذي تمضي في دربه دول العالم المعاصرة.
مهما يكن من أمر فقد وجدت ليبيا نفسها في حالة فراغ سياسي، وأغلب الظن أنها ستبقى كذلك إلى حين يجمع المجتمع الدولي على رأي وتوجه واحد، ومن دون التفكير بطريقة قسمة الغرماء. في الداخل الليبي لا يبدو أن هناك في الأفق بوادر مصالحة بين الشرق والغرب، أي بنغازي وما حولها من قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، والغرب حيث توجد حكومة الوفاق التي يرأسها السراج، والتي باتت تعج بالإرهاب والإرهابيين من كل صوب وحدب، وأضحت حاضنة للجماعات الأصولية من «داعش» و«القاعدة»، على خلفية أنها حكومة «الإخوان» الفرع الليبي.
لن تحدث مصالحات لسبب بسيط جداً، وهو أن الشرق الليبي يفكر ويتعاطى مع الداخل بطريقة أيديولوجية وربما قومية تهتم بليبيا والليبيين، فيما الغرب يتعاطى بطريقة دوجمائية، أي أنه يفكر على أساس المشروع الديني، الذي حلم البعض بأنه سيسود العالم العربي بعد أحداث ما عرف بالربيع العربي، والذي أثبتت التجربة التاريخية، أنه كان وبالاً على الدول التي عاصرته، بعد أن حسرها وعصرها.
في هذا السياق يمكن للمرء أن يتفهم ما الذي يقوم به أردوغان، والذي وقع اتفاقيتين مع السراج، أمنية وعسكرية، تخولانه تحويل ليبيا إلى دولة تابعة، أو بمعنى آخر ولاية ضمن ولايات الباب العالي الذي كان يوماً صاحب الأمر والنهي في العالم العربي.
الأسئلة مستمرة ومزعجة فما الذي يريده أردوغان من ليبيا أول الأمر؟ بداية يمكن القطع بان الأحقاد التاريخية والمعاصرة تملأ قلب الرجل تجاه العالم العربي دفعة واحدة، ولهذا فهو لا يألو جهداً في طريق تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، ويرى في ليبيا فرصة ذهبية حيث نسيجها المجتمعي مفتت إلى ثلاث مناطق غرباً وشرقاً وصحراء فزان في الجنوب.
الأمر الآخر الذي لا يغيب عن أعين الناظر للأزمة الليبية، هو أن أردوغان يحاول أن يعيد من الشباك ما قد تم طرده من الباب، ونقصد بذلك جماعات الإسلام السياسي، وليت الأمر يتوقف عند حدود تلك الجماعات لكنه يتجاوزها إلى التفكير في جعل ليبيا حاضنة جديدة للإرهاب «الداعشي» الذي تبنته أنقرة طوال الأعوام الماضية، وفي هذا الإطار بات من الواضح جداً أن أردوغان يسعى لتسريب وتهريب كافة «الدواعش» من سوريا وتحديداً من منطقة ادلب إلى تركيا ومنها إلى ليبيا بحراً وجواً.
خطط أردوغان الكارثية تمارس أمام أعين المجتمع الدولي، والذي يدرك فيه الجميع أن النوايا السلبية قائمة وقادمة، فالرجل يحمل ضغائن تاريخية لأوروبا، ويريد أن يشكل وجوده مهدداً لوصول الغاز الطبيعي إليها من المنطقة من جهة، ومن جهة ثانية يسعى إلى إحياء الخلافة المزعومة عبر نقل وتجميع كافة الأصوليين في شمال أفريقيا، وتالياً التوجه والانتشار في العمق الأفريقي، حيث الرؤية الأردوغانية هي جعل بعض الدول الأفريقية مثل مالي وتشاد والنيجر وكينيا محطات لخدمة مشروعه الجديد.
السؤال المزعج هنا ما السبب وراء حالة ميوعة المجتمع الدولي تجاه ما يجري في ليبيا بشكل عام، ونحو الاتفاقيات المنحولة بين أردوغان والسراج بوجه خاص؟
لا يمكن تقديم جواب شاف واف دون النظر إلى جزئية تلعب دوراً رئيساً في الصراع الجاري والمتعلقة بثروات ليبيا من النفط والغاز، التي هي في قلب المشكل وتمثل عنصر جذب للقوى الإقليمية والعالمية بل والمحلية، إذ تقدر احتياطيات ليبيا بحوالي 48 مليار برميل، كما أن لديها احتياطيات نفط صخري تقدر بحوالي 26 مليار برميل.
في هذا الإطار يمكن للمحلل السياسي المحقق والمدقق أن يجزم بأن أوروبا تتصارع على ثروات ليبيا بأكثر من الاهتمام بالتوصل إلى حل للازمة الليبية، والدليل ما يجري من شقاق وفراق بين إيطاليا وفرنسا في هذا الصدد.
من جهة ثانية يمكن القطع بان الولايات المتحدة الأميركية تراقب من بعيد وكانها تنتظر المنتصر في المعركة لتحديد بوصلتها. ليبيا يمكن أن تكون شرارة إقليمية ودولية.. فانظر ماذا ترى.
*كاتب مصري