يتصاعد البخار من المداخن ويمتزج صوت الهسيس بأصوات الطرق والحفر من موقع مترامي الأطراف يمثل مراهنة بقيمة 450 مليون دولار على مستقبل ألمانيا الصناعي. وفي حزام الصدأ الألماني المنتشر مع تناثر مناجم الفحم ومصانع الصلب المتعثرة، تقيم شركة «افونيك انداستريز» مصنعاً لإنتاج مادة تعتقد شركات الكيماويات أنها ستصبح فتحاً للطباعة ثلاثية الأبعاد على مستوى القطاع الصناعي. ويقدم هذا المشروع المُقام في مركز «وادي روهر» الصناعي شريان حياة للاقتصاد المحلي، وقد يكون مثالا يحتذى به في كيفية تطبيق مدرسة ألمانيا القديمة في الهندسة على حقبة جديدة. لكنه يعكس كذلك المخاطر التي تلوح في أفق اقتصاد البلاد. فتكنولوجيا الطباعة ثلاثية الأبعاد، المستخدمة في كل شيء من الأحذية إلى قطع غيار السيارات، قد تقلب التصنيع التقليدي الذي يدعم الوفرة الألمانية رأساً على عقب. ورغم الاستثمارات الكبيرة، يستوعب المصنع المعتمد على النظام الآلي بكثافة 150 وظيفة فحسب، في تباين صارخ مع قوة العمل البشرية الكبيرة المطلوبة للقاعدة الصناعية العتيقة في المنطقة. لكن هذا مازال أفضل من لا شيء لمدينة مارل. ويرى فيرنر آرنت، رئيس بلدية مارل، أن «وجود هذا المصنع الجديد، وبمثل هذا المستوى المرتفع من الاستثمار، يؤمّن مستقبلنا».
والمصنع وثيق الصلة بالتاريخ الألماني. فالمكان يقع على بعد 130 ميلا شمالي مديمو ماينز التي اخترع فيها يوهانس جوتنبيرج الطباعة قبل 500 عام، مدشناً عصراً من الاتصال الجماهيري. وكانت ألمانيا من الدول التي تبنّت في وقت مبكر الطباعة ثلاثية الأبعاد، بينما عانى صنّاع الطباعة التقليدية مثل هايدلبيرجر دروكماشينين ومانرولاند من تراجع صناعة الصحف. وشركة «إ. أو. إس. المحدودة»، والتي مقرها ميونيخ، واحدة من الشركات الرائدة في العالم في تصنيع الطابعات ثلاثية الأبعاد. والأمل يتمثل في أن تستطيع الطباعة ثلاثية الأبعاد، بما تمنحه للشركات من حرية بلا مثيل في التصميم، تدشين عملية إعادة هيكلة تكنولوجية مشابهة تجعل التصنيع أكثر مرونة. وهذا في المقابل قد يمثل تحدياً لمنتجي الآلات في البلاد إذا عجزوا عن التكيف.
والمصنع سينتج بلاستيكاً مسحوقاً ليستخدم كحبر للطابعات ثلاثية الأبعاد لتلك التي تنتجها شركة «إ. أو. إس»، وشركة «أتش. بي»، وشركة «3 دي سيستمز». وهذه مراهنة جريئة في وقت يكابد فيه أكبر اقتصاد في أوروبا للتغلب على ركود أجبر شركات مثل «سيمنز» و«دايملر» على إعلان تقليص 100 ألف وظيفة العام الجاري. والنموذج الاقتصادي الألماني تهدده حروب التجارة والتحول السريع إلى التكنولوجيات الرقمية وطموح الصين في أن تصبح زعيم العالم في التصنيع المتقدم، ومنتجو السيارات في البلاد معرضين بشكل خاص لخطر التلاشي التدريجي لمحركات الاحتراق.
وأسوأ ركود صناعي ألماني خلال عقد الزمن من شأنه الإضرار بنمو الاقتصاد العام المقبل على الأقل مع تضرر الطلب المحلي من ركود سوق العمل، وفقاً لبيانات البنك المركزي الألماني «بوندسبنك». وقلص بوندسبنك الأسبوع الماضي توقعاته لنمو الاقتصاد الألماني في عام 2020 إلى النصف ليصل إلى 0.6%.
ومصنع «افيونيك» الجديد، وهو توسع لمنشآت قائمة، حيوي لمنطقة «وادي روهر» التي تبلغ فيها معدلات البطالة مثلي نظيرتها في المتوسط القومي. والمصنع سينتج مادة «بوليميد 12»، وهي عبارة عن بلاستيك مقاوم لتقلبات الحرارة والتآكل. واستُخدمت هذه المادة لعقود في كل شيء، من أنابيب عادم السيارات إلى آلات غسل الأطباق. لكن شركة «ايفونيك» نقحت مكوناتها لتستخدمها في الطابعات ثلاثية الأبعاد.
وتستخدم شركات مثل «جنرال إلكتريك» و«ايرباص» و«بي. إم. دبليو».. آلات الطباعة في إنتاج أجزاء المحركات والطائرات والسيارات، بينما استخدمت الشركات الطبية الطباعة في كل شيء من المباضع إلى الأطراف الصناعية. ويُتوقع تزايد مبيعات آلات الطباعة ثلاثية الأبعاد لتصل أكثر من ثلاثة أمثاله متجاوزة حاجز 35 مليار دولار عام 2024، وفقاً لشركة «وهلرز اسوشيتس» الاستشارية. ويرى فولفجانج ديكمان، الذي يطور مساحيق الطباعة الثلاثية الأبعاد لشركة «ايفونيك» في مجمع «مارل» الكيماوي (يضم مجموعة من المنشآت التي تعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي) «أننا ندشن تكنولوجيا جديدة. يتعين على إيفونيك التحلي بسرعة الحركة لتواكب تطور السوق السريع».
ورغم ما تبشر به الطباعة ثلاثية الأبعاد، يتعين عليها التخلص من عراقيل كثيرة؛ مثل السرعة والكلفة والتأثير البيئي.. قبل أن تتمكن من أن تحل محل الأنماط الأخرى من التصنيع على نطاق واسع. وأعلنت «إيفونيك» أنها تبحث وسائل لإعادة تدوير المسحوق، وأدخلت العام الجاري نسخة جديدة تقول إنها تقلل «كثيراً» الهدر. والمصنع الجديد سيبدأ العمل عام 2021 وسيعزز إنتاج «إيفونيك» من مادة «بوليميد 12» بأكثر من 50%. وإلى جانب الطباعة ثلاثية الأبعاد، تروج «إيفونيك» للمادة الكيماوية لاستخدامها في قطع السيارات الكهربائية وأنابيب النفط والغاز.
وتتفوق «مارل» التي أغلق فيها آخر منجم للفحم عام 2015 على مواقع صناعية آسيوية معروفة. ويعود هذا في جانب منه إلى تعزيز روابطها بالموردين والمستهلكين القريبين، لاسيما أنه تتوافر فيها طائفة متنوعة من العمال المهرة. فهناك نحو 10 آلاف شخص يعملون في مجمع الصناعات الكيماوية. وتحصل إيفونيك على المادة الخام الرئيسية «لبوليميد 12» من مورد قريب عبر خط أنابيب مباشر.

*صحفي متخصص في شؤون التكنولوجيا والإعلام في ألمانيا
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»