تُشكل القيم ا كالتسامح والثقة والتنوع والاختلاف والعيش معاً في ظل اقتصاد المعرفة مورداً أساسياً واستثماراً للدول والمجتمعات لتطوير رأسمالها البشري، واكتساب ثقة المستثمرين والسياح، وبناء التماسك الاجتماعي، كما تنشئ منظومة عامة وفاعلة لمواجهة الأخطار والتحديات التي تواجه المجتمعات والأفراد في ظل مرحلة يتداخل فيها العالم ببعضه بعضاً، بما في ذلك من مخاوف ومهددات للاستقرار والأمن، وخاصة ما يرافقها من تعصب وتطرف وعنف وعزلة وضعف الانتماء والمشاركة وضياع الهوية والمعنى.
لقد صعد دور الثقافة وتأثيرها في النظام العالمي، وصارت تؤثر بقوة وفاعلية في الاقتصاد وفي حياة الناس ومواردهم وأعمالهم، ولم يعد ممكنا عزل الاقتصاد عن القيم والأخلاق وتأثيرها على الأسواق والأعمال والسلع كما أسلوب الحياة، وعلى سبيل المثال لا يمكن لنشاط اقتصادي أن يستغني عن قيم التعاون والتكافل الاجتماعي، سواء كان هذا النشاط مؤسسة صغيرة أو مصنعاً ضخماً، ونحتاج جميعاً إلى الشعور بالرضا في أعمالنا وتواصلنا وعلاقاتنا في العمل والحياة، وهذا الرضا مستمد أساساً من الرغبة الإنسانية العميقة بالاعتراف وتحقيق الذات.
والإنسان في حاجته للعمل والمال لا يحتاجهما فقط لتحقيق حاجاته الأساسية من الغذاء والمأوى والكساء، لكن أيضاً لأجل هويته وكرامته ومكانته في المجتمع، هكذا فإن الاقتصاد يُشكل حزءاً أساسياً من الحياة الاجتماعية، ويتأثر تأثراً مباشراً بالقيم والمعايير والالتزامات الأخلاقية والعادات والتقاليد والأعراف التي تحدد وجهة المجتمع وهويته، ومن ثم فلا يمكن تحقيق الازدهار والتقدم الاقتصادي من غير تقدم اجتماعي ثقافي.
تعكس الثقافة بما هي وعي الذات ما تحب أن تكون الأمم عليه، وما يجب أن تفعله لتكون ما تحب، وتقدم المجتمعات وعيها لذاتها في منظومة واسعة ومعقدة من الأوعية والأدوات التي تعكس هذا الوعي، مثل العادات والتقاليد والقيم والأعراف وأسلوب الحياة واللباس والطهو والسلوك الاجتماعي والإبداع والتصميم والعمارة والآداب والفنون (القصة والرواية والشعر والمسرح والدراما والسينما والموسيقى،..) وهكذا فإن أهمية الثقافة أنها يستدل بها بوضوح وبمقاييس عملية على النجاح والفشل والفجوة بين الواقع، وما يجب أو يمكن أن تكون عليه الأمم في سلم التنمية والازدهار.
هناك منظومة واسعة يمكن أن تفكر فيها المؤسسات والمنظمات الاجتماعية والثقافية كما الحكومات لأجل النهوض الثقافي بالتنمية والمراجعة الثقافية باتجاه تحسين الحياة والتقدم أو التصدي للأزمات الاقتصادية والاجتماعية، على سبيل المثل وعلى نحو تذكري يمكن التفكير بما نحب أن نكون عليه وما يجب فعله لنكون ما نجب في مجالات وحقول شتى، مثل: العادات (الأفعال الجماعية والفردية المتكررة) والتقاليد (الأفعال التي تجري في المناسبات، مثل الأعياد والزواج والوفاة والولادة والنجاح) والقيم (الحكم والقياس المتعلق بالأشياء والأفكار والأحداث، صواب أو خطأ، ضار أو مفيد، قبيح أو حسن) والأعراف (القوانين غير المدونة لتنظيم الحياة والعلاقات) وأسلوب الحياة، واتجاهات الأفراد والمجتمعات نحو مجموعة واسعة من الممارسات والأعمال، في الطعام والطهو واللباس والسكن والاقتناء وتمضية الوقت والترفيه واللعب، والسلوك الاجتماعي، والقواعد التي تنظم حياة الناس اليومية فردياً وجماعياً، مثل العلاقات الاجتماعية في الأسر والعمل والجيرة، وقيادة السيارات، والتعاون وحل الأزمات والمشكلات ومواجهة وإدارة الفضاء المشترك، والعمارة واتجاهات تصميم وتخطيط البيوت والأثاث والمدن والبلدات والأحياء والشوارع والأرصفة والمرافق العامة.
وبالطبع هناك الآداب والفنون بما تشمله من الأسواق الثقافية، واتجاهات الاستهلاك وتأثير الثقافة في الأسواق، والعرض والطلب في الإنتاج الثقافي والفني، مثل المسرح والكتب والفنون التشكيلية، والموسيقى والمحاضرات والسينما والدراما، أو تأثير التصميم والإبداع في قيمة وتسويق المنتجات والمقتنيات والأثاث والعمارة واللباس.
إن رأس المال الاجتماعي صار مكوناً أساسياً وضرورياً للتقدم والازدهار تتحدث عنه كثير من الدراسات والتقارير الدولية المعتبرة، وصار ممكناً قياس تقدم الأمم وتقييم أعمالها واستثماراتها والتزاماتها العالمية والأخلاقية استناداً إلى مجموعة من المؤشرات، مثل الثقة والإتقان والتسامح، والمصالحة والتعايش، والتعاون والتطوع والمشاركة والانتماء والاستماع والحوار والتنوع والاختلاف، والعادات الثقافية مثل القراءة والمشاركة الثقافية – المحاضرات، الندوات، المسرحيات، السينما، واقتناء الأعمال الثقافية والفنية.
كما يؤشر اليوم إلى التقدم والقبول العالمي بالمسؤولية الاجتماعية للشركات والقطاع الخاص، مثل تخصيص جزء من الأرباح للعمل الاجتماعي والتنموي، وحماية البيئة والحقوق العامة للعاملين وأسرهم ومجتمعاتهم، والرعاية الاجتماعية والصحية والنفسية للمعوقين والمرضى وكبار السن.
وتنشئ الأمم أيضاً اتجاهات ومنجزات مهمة جداً في التزاماتها الاجتماعية الفردية والاجتماعية، مثل تنشئة الأطفال تنشئة سليمة تعليمياً وصحياً ونفسياً واجتماعياً، واتباع الصحة والعادات الصحية السليمة، والتغذية الجيدة، وممارسة الرياضات الفردية والشعبية والمنظمة، وفي المقابل فإن الأمم والمجتمعات تهدر مواردها وفرصها في التقدم والتنمية عندما تسود أو تغلب فيها اتجاهات مثل التعصب والتطرف والعنف والجرائم والغش والأنانية والإيذاء والإدمان والهدر والاستهلاك المفرط والسمنة والتلوث.
إن هذه القيم برغم أهميتها وضرورتها للتقدم وحماية الأمم والمصالح لا يمكن للدول أن تطبقها بتشريعات ومؤسسات رسمية وتنظيمية بالطريقة التي تنشئ بها الجيوش والأجهزة الأمنية والبنوك، لكنها تتحقق وتنجح من خلال ثقافة سائدة وشراكة مجتمعية وفردية مع الدولة والشركات وببناء منظومة من المؤسسات الاجتماعية الوسيطة بين المجتمع والدولة وبين المجتمع والأسواق.
*كاتب وباحث أردني