قد تكون إنجلترا هي التي فجّرت الثورة الصناعية الأولى مع المحرك البخاري، ولكن إمكانيات تلك الثورة تحققت في الولايات المتحدة في الواقع. ذلك أن أميركا هي التي تزعمت الثورتين الصناعيتين الثانية والثالثة – السيارات والحواسيب والإنترنت – ما خلق أسس التفوق الاقتصادي الأميركي. ولكن اليوم، ومع مجيء الثورة الصناعية الرابعة، أخذت الولايات المتحدة تتخلف.
وإذا كانت جامعاتنا وشركاتنا التكنولوجية ما زالت تقود العالم في الابتكار المتطور – من الذكاء الاصطناعي إلى تكنولوجيا «5 جي» – فإن الصين هي التي تنشرها. وهكذا، أخذت الولايات المتحدة تخسر سباق الاستغلال التجاري، وهو فشل من صنع أيدينا. ولهذا، يجب علينا معالجة هذه النقائص ونقاط الضعف من أجل التعويض عن الوقت والفرص الضائعين.
خوارزميات الذكاء الاصطناعي القوية وتقنيات تعلم الآلة تجعل كل شيء أسرع وأكثر فعالية. وإذا كان الذكاء الاصطناعي هو «الكهرباء» الجديدة، فإن الـ«5 جي» هي البنية التحتية الخاصة بالنقل والتوزيع اللازمة من أجل تمكين هذه التكنولوجيات من الاشتغال على أحسن وجه.
هذا «الطريق السريع الرقمي» الجديد المتمحور حول «5 جي» سيؤدي إلى ظهور صناعات وخدمات جديدة لم تكن متخيلة من قبل. ولهذا، يجب على الولايات المتحدة أن تضاعف جهودها من أجل إنشاء هذه البنية التحتية الرقمية وجعل الاستغلال التجاري لإنترنت الأشياء واقعاً.
ذلك أن البيانات الكبيرة وخوارزميات الذكاء الاصطناعي تتطلب شبكات سريعة جداً حتى تنجح. وشبكة «5 جي» المتحركة الأحدث ستكون أسرع بـ100 مرة من الشبكات الحالية، إذ سيستغرق تنزيل الأفلام، مثلاً، سبع ثوانٍ بدلاً من سبع دقائق. ولكن الأهم من ذلك هو الكفاءة والاضطراب عبر القطاعات – من مساعدة الأطباء على إجراء عمليات جراحية عن بعد، إلى معالجة صور للسيارات من دون سائق في الوقت الحقيقي. ذلك أن أي تأخر قد يعني الفرق بين الحياة والموت.
الصين عاقدة العزم على تحقيق هذه الأهداف. فسياسة بكين الصناعية والقطاع الخاص الصيني يتسابقان لدعم وتطوير الاستغلال التجاري لـ«5 جي» والتكنولوجيات والمنتجات والخدمات المرتبطة بها، ليس للصين فحسب، ولكن أيضاً للدول التي سترحب بـ«5 جي» المصنوعة من قبل شركة «هواوي» حول العالم. ولهذا الغرض، فإن حتى الشركات الصينية المملوكة للدولة عبِّئت بسرعة. وفي الأثناء، توقفت واشنطن في مكانها.
إن السرعة مهمة؛ لأن نشر شبكة «5 جي» آمنة وموثوقة بسرعة، يخلق «امتياز القادم الأول» ويؤدي إلى الاستغلال التجاري لطائفة متنوعة من المنتجات والخدمات. والصين تستطيع إنشاء نحو 150 ألف محطة ربط بنهاية العام، أي ما يعادل تقريباً 15 ضعف ما ستقيمه الولايات المتحدة.
وعلاوة على ذلك، فإن الولايات المتحدة ليس لديها شركة محلية لصنع معدات «5 جي»، ولهذا، فإنها مضطرة للاعتماد على الموردين الأوروبيين أو الصينيين. وبالمقابل، تمتلك الصين «هواوي» و«زي تي إي»، اللتين تُعدان أكبر موردين لمعدات «5 جي» في العالم، ما سمح لها بدخول السوق بسرعة. ثم إن «5 جي» متوفرة في الصين منذ مدة في أكثر من 50 مدينة، في حين لا يوجد في الولايات المتحدة سوى «5 جي إي»، والتي لا تُعد بديلاً لشبكة «5 جي» تنافسية حقاً.
ولهذا، فإننا في حاجة لاستراتيجية للحاق من أجل سد هذه الهوة بسرعة. وقد آن الأوان لتقييم صادق لكيف خذلت حكومتُنا مبتكرينا وشركاتنا.
بيد أن إنشاء ستار حديدي اقتصادي، مثلما يدعو لذلك بعض صناع السياسات، لن يوقف تقدم بكين – مثلما أنه لن يساعد تقدمنا. وبدلاً من ذلك، ينبغي على واشنطن أن تركز ليس على محاولة إبطاء الصين فحسب، ولكن أيضاً على تسريع الجهود داخل الولايات المتحدة.
والمهم أيضاً هو ضرورة أن تجدد الولايات المتحدة التزامها بالتفوق العلمي والتكنولوجي، عبر مواصلة التمويل الفدرالي للبحث والتطوير، ورفعه إلى 1 في المئة على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي. كما يجب علينا أن نزيد الاستثمارات في البنية التحتية العلمية لبلدنا، بما في ذلك مختبرات الابتكار التي تستطيع تطوير أحدث التكنولوجيات الرقمية.
وفضلاً عن ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تبذل جهوداً أكبر لجذب أفضل المواهب والكفاءات العالمية والمحافظة عليها. إذ لا يمكننا أن نستمر في تنفير أفضل الخبراء والطلبة من خلال الخطابات القاسية ونظام هجرة قديم عفا عنه الزمن.
وفوق على شيء، يجب أن نبقى منفتحين. فقد كان ذلك دائماً هو مصدر امتيازنا وتفوقنا الوطني.
وخلاصة القول، إنه بدلاً من خسارة ثمار هذه الثورة الصناعية حتى قبل أن تصبح يانعة، ينبغي للولايات المتحدة أن تبني عليها وتُحسن استثمارها. كما يجب أن نستخلص دروس خطأ «5 جي»، وإلا فإننا سنخسر مستقبلنا الاقتصادي. ولا شك أن السباق سيكون طويلاً، ولكن من خلال التركيز الاستراتيجي الصحيح والسياسات المناسبة، تستطيع الولايات المتحدة حماية أمنها القومي من دون التخلي عن زعامتها للصين في التكنولوجيات الناشئة.
*وزير الخزانة الأميركي سابقاً، ورئيس معهد بولسون في شيكاغو
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»