حظيت أبوظبي بمكانتها كعاصمة للتسامح بعدما كرست جهدها لاحتضان قيمه وثقافته، وبشرت بمعانيه الإنسانية النبيلة، كما نجحت كذلك في فرض رؤيتها المرتبطة بهذا الجانب، وكسبت المؤيدين والأنصار لها من مختلف الديانات والأعراق.
خلال الأسبوع الماضي تأكد هذا المعنى بوضوح عندما وقّع أكثر من ألف شخص من مسؤولين حكوميين وممثلي الديانات الإبراهيمية ورجال فكر وإعلام على وثيقة «حلف الفضول» على هامش فعاليات الملتقى السنوي السادس لـ(منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة)، والذي حمل عنوان «دور الأديان في تعزيز التسامح.. من الإمكان إلى الإلزام»،
وعلى مدار ثلاثة أيام، استمر المنتدى برعاية كريمة من سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية والتعاون الدولي باعتباره رئيس اللجنة الوطنية العليا لعام التسامح، ومع اختتامه تم الإعلان عن الوثيقة، والتي تنبع أهميتها – بتقديري - من كونها تؤكد على حقوق الإنسان التي دعا إليها العرب قبل سواهم، فسبقوا بذلك البريطانيين الذين أصدروا وثيقة «ماغنا كارتا» - العهد العظيم - عام 1215، وكذلك الدستور الأميركي الصادر عام 1776 الذي اعتُبر النواة الأساسية لحقوق الإنسان، وأيضاً وثيقة «حقوق الإنسان والمواطن» الفرنسية التي صدرت بعد الثورة الفرنسية عام 1789، واعتُبرت انطلاقة لحقوق الإنسان.
ولمن لا يعلم، فقد كان العرب أول من خط كلمة وسجّل موقفاً في هذا المجال منذ أواخر القرن السادس الميلادي، حين اجتمع فضلاء مكة وتعاهدوا على أن (لا يدعوا ببطن مكّة مظلوماً من أهلها أو ممن دخلها من سائر الناس إلّا كانوا معه على ظالمه حتى تردّ مظلمته). وإذا كان حلف الفضول العربي قد جاء في زمن الجاهلية، فإن الإسلام اتّخذ منه موقفاً إيجابياً، وحين سُئل النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم عن الحلف قال: (شهدت مع أعمامي في دار عبدالله بن جدعان حلفاً لو أنني دُعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت).
إن ميثاق «حلف الفضول» الجديد ليس مجرد مبادئ نظرية، إنما بالإمكان ترجمته وبلورته من خلال منهج عملي وبرنامج تطبيقي يمكن تعليمه لطلبة المدارس والجامعات، وتعميمه في مختلف المؤسسات، خاصة وأنه يقدم مفهوماً جديداً للإنسانية يتجاوز المبدأ المحايد لحقوق الإنسان، ليرتقي إلى قيم الفضيلة والمحبة والأخوة والرأفة والرحمة والإيثار والتضامن ومساعدة المحتاج من الفقراء والعاجزين، ودون الالتفات إلى العرق أو الدين أو الأصول. كما يشكل الحلف نقلةً مهمة نحو إنهاء الخطاب القائم على الصراع الديني أو العرقي، ويمهد لتشكيل حلف قوي للدفاع عن السلم والسلام في العالم، ويعمل على نقل الحرية الدينية وعلاقات التعاون وقيم التسامح من مجرد الإمكان إلى درجة الالتزام الأخلاقي والإلزام القانوني، وخاصة فيما يتعلق بحماية دور العبادة، وذلك انطلاقاً من أن التسامح من أسمى ما دعت إليه الأديان، ومن أرقى ما أوصى به المرسلون والصالحون، خاصة أن الكتب السماوية أقرّت هذا المبدأ.
منذ عقود والإمارات تتبنى مفهوم التسامح وتحرص على الالتزام به في علاقاتها مع الآخرين، ومن خلال احترامها لمعتقداتهم وثقافاتهم، وانطلاقاً من إدراكها بأن التعددية والتنوع يشكلان مصدر قوة للمجتمعات البشرية. ولهذا فهي تحرص على توفير الحرية والحياة الكريمة لجميع سكانها، وهو ما يؤكد التزامها بالقيم النبيلة التي يشترك فيها بنو آدم فالتسامح في الإمارات ليس واجباً أخلاقياً فقط، بل هو مجال حيوي للمبادرة والابتكار، وأداة لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، وطريق لبناء علاقات دولية إيجابية. ويتضح حرص الإمارات على إعلاء قيمة التسامح من خلال تعاونها مع جميع الدول في نشر مبادئ الأخوّة الإنسانية، بما يتطلبه ذلك من استعداد لعرض تجربتها أمام العالم والاطّلاع على التجارب الأخرى.
ومن هذا المنطلق، وقبل أن يودعنا عام 2019 الذي عنونته الإمارات عاماً للتسامح، اتخذ مجلس الوزراء قراراً بأن «عام التسامح» بكافة مبادراته وأنشطته مستمر، لأنه جزء من الإرث الإماراتي الذي وضعه المؤسسون، وهو أحد أهم أدوات التطور والتنمية، ويحقق الريادة للشعوب في مختلف المجالات.
تلك الخطوة الحكومية تتزامن مع قرار الأمين العام للأمم المتحدة بتعميم «وثيقة الأخوة الإنسانية» على أعضاء المنظمة الـ194، والتي سبق وأن وقعها كلٌّ من الإمام د. أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف والبابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية في فبراير الماضي في أبوظبي، وذلك لاعتبارها أحد أهم وثائق العصر الحديث في مجال الإخاء الإنساني، كونها تواجه التطرف بكل أشكاله.
لا شك أننا في الإمارات من أعلى رأس الهرم وحتى قاعدته نتطلع إلى مستقبل يزخر بالقيم الإنسانية الإيجابية حيث يعيش الناس من جميع المعتقدات والخلفيات في مجتمع واحد لا تفرقة فيه ولا تمييز، كما نسعى إلى تقديم نموذج مثالي عبر إعلاء قيمتي التسامح والتعاون بين البشر، بصرف النظر عن أعراقهم وأديانهم.
ولعل الحقيقة الدامغة التي كشفت عنها كلمات وحوارات المسؤولين والمفكرين في «ملتقى السلم» هي أن «حلف الفضول» الجديد المستلهم من تاريخ العرب القديم، إنما يمثل بتشكيله الجامع بين العقلاء والحكماء من مختلف المشارب الفكرية والعقيدية فرصة أكيدة ووحيدة للبشرية للدفاع عن القيم الإنسانية وعن السلم الأهلي في العالم، بهدف مواجهة الإرهاب العابر للقارات، والتصدي لخطب التعصب والكراهية ورفض الآخر على أساس اختلاف الدين أو العرق أو الجنس أو الجذور الثقافية، خاصة أن الحلف الجديد يعلي من شأن العديد من المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، وفي مقدمتها الكرامة، وحرية العبادة، والعدالة، والسّلم باستثناء حالة الدفاع عن النفس، والرحمة بالآخرين والبر بهم، بالإضافة إلى الوفاء بالعهود والمواثيق التي تحض على التسامح.