في «المعجم الفلسفي» الذي كتبه العلامة الدكتور جميل صليبا، ورد أن التأمل كاصطلاح فلسفي يعني استعمال الفكر للنظر في العواقب. والتأمل بهذا المعنى مرادف للنظر والتفكر، ومقابل للفاعلية والنشاط العملي. والتأمل هو استغراق الفكر في موضوع تفكيره إلى حد يجعله يغفل عن الأشياء الأخرى، بل عن أحوال نفسه. وهو عند الصوفيين درجة سامية من درجات المعرفة تقوم على تخلية القلب عن التفكير في الأشياء الحسية حتى ينتهي إلى مقام رفيع. والفرق بين التأمل والتفكير أن التفكير تصرف الذهن في معاني الأشياء لمعرفة أسبابها، وظروفها، ونتائجها، في حين أن التأمل هو التفكير المصحوب بالاعتبار. والتأملي هو المنسوب إلى التأمل، فنقول «الحياة التأملية» وهي درجة عالية من درجات الاستغراق في التفكير، مقابلة «للحياة العملية».
وعند الفلاسفة والعقلانيين عموماً، التأمل إعمال للعقل، وتقليب للشأن المراد درسه، وتحليل القضايا إلى بسائط، ثم تركيبها من جديد. بينما يأخذ مصطلح «التأمل» عند المتصوفة (شرقاً وغرباً) صورة النقيض. إنه يعني عندهم «إيقاف التفكير» و«إسكات العقل». لقد فاز متصوفة الهند بقصب السبق عندما أشاروا لأول مرة في تاريخ الفكر الإنساني إلى أن شقاء الإنسان يأتي من رأسه الذي بين كتفيه. هذا الذهن الذي يجره سلك الحرير إلى القلق، هذا «العقل» الذي يحوم حول الهمّ كما تحوم الفراشات حول النار وتحترق بها.
بعد الهندوسية، نشأت البوذية التي استطاعت أن تنتقل بسلاسة خارج الهند لتنتشر في كل البلدان المجاورة، منتقلة من الصين إلى جزر اليابان. في كل تلك البلاد، يتبادر إلى أذهانهم معنى مختلف عما يخطر ببال العربي، عندما يسمعون مفردة «تأمل». بالنسبة لمتصوفة الشرق، هو أمر صحي جداً أن يقوم الإنسان بالتأمل في كل يوم لمدة خمس عشرة دقيقة. ما يتم في هذه الدقائق هو تأملهم وليس تأملنا. هو إيقاف للفكر في هذه الفترة الزمنية. ولكي تنجح في القيام بهذا التمرين اليومي، لابد أن تكون بعيداً عن الشواغل، فلا يصلح أن تتأمل وأنت تقود السيارة، ولن تطبقه بشكل صحيح وبجوارك من يتكلم. لابد أن تكون في مكان لا يزعجك فيه أحد. وإذا تخلصت من الناس، سيبقى أمامك تحدي التخلص من الأفكار. قد هربت من أصوات البشر، فكيف ستسكت هذا الصوت الذي في رأسك. شاعر الإنجليزية الكبير ألفريد تنيسون كان يكرر اسمه «ألفريد» فيمنعه هذا من الغرق في أية فكرة. آخرون خرجوا بتمرين التنفس، أن تتابع الشهيق والزفير، وتشعر بالهواء وهو يدخل إلى جسدك ويخرج منه. بالتأكيد سيكون التطبيق صعباً في البداية، بالأخص في حالة الإنسان القلق. لكن الإصرار على طرد الأفكار، حتى بعد تسللها، سيقرّب الإنسان من عملية «إيقاف التفكير» بعد فترة من التمرن.
ما فائدة التأمل؟ إنها فوائد معدودة، لكنها ذات قيمة كبيرة لمن جرب التأمل. وأول هذه الفوائد أنك تصبح مسيطراً على عقلك، فلا تسمح لأفكار الضعف والسلبية بالتمكن منك. ومنها، أنك تصبح قادراً على الانسحاب من أي موقف مزعج، بمجرد التوقف عن التركيز، أي موقف محزن يمكن التخلص منه بإيقاف التفكير والبقاء في حالة بلا مشاعر.
قد تبدو هذه التجربة للإنسان في مجتمعاتنا العربية كحالة من الشعوذة، لكنها في الشرق الأقصى، ممارسة طبيعية يقوم بها كل إنسان لتصفية ذهنه وإراحة باله، دون حاجة للانتماء لمذهب معين أو لعقيدة بذاتها.

*كاتب سعودي