«إنَ واجبنا أن نحافظ على روح التسامح المفعم بالأمل والإيمان، حتى أمام أحلك الأزمات، وتنامي حركات تبني فكرها على فرض التناقض بينها وبين الغير، وتدعو إلى المفاضلة الدينية وصدام الحضارات. فكل هذا المشهد المتغيّر المحلولك، لا يمكن أن يُنسينا الجانب المضيء. حيث لم تزل غالبية الإنسانية شرقاً وغرباً، تؤمن بإمكانية العيش المشترك، وتتصدى لخطاب العنف والكراهية، وتدفع المبادرات الميدانية والحملات التوعوية وهبات التضامن الأخوية». أوردتُ هذه الفقرة من الورقة التأطيرية للملتقى السادس لمنتدى تعزيز السلم بأبوظبي بين 9 و11 ديسمبر، وكان موضوعه «دور الأديان في تعزيز التسامح». وقد حاضر في الديانات المختلفة الإبراهيمية والآسيوية عشراتٌ من الباحثين واللاهوتيين، وانصبّت محاضراتهم على إيضاح وتعليل موارد الإسهام أو إمكان الإسهام من جانب كل دينٍ في تكوين متَحَدٍ للتسامح بمعناه الجديد العالمي والشامل. وكانت تلك المقاربات أعمالاً متأنيةً في المقاربات الأخلاقية للدين، إذ أين يمكن أن تلتقي الديانات، وبخاصةٍ غير الإبراهيمية؟ اللقاء في المجال العقدي صعب، لكنه ممكنٌ ومرجح في المجال القيمي والأخلاقي. وبخاصةٍ أنّ التسامح قيمةٌ أخلاقيةٌ بالأساس. وقد راهن على ذلك من قبل اللاهوتي الكاثوليكي المعروف «هانز كينغ» في كتابه «نحو مشروع أخلاقي عالمي»، ولخصه كينغ بأنه لا سلام في العالم من دون سلامٍ بين الأديان، أي باجتماعها حول قيمٍ أخلاقية عالمية.
وجديد الملتقى السادس لمنتدى تعزيز السلم هو تقديم الشيخ الجليل عبد الله بن بيه مشروعه الكبير بعنوان «ميثاق حلف الفضول الجديد»، وقد تحدث عن هذا المشروع الذي صار ميثاقاً عدة مرات من قبل وبخاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، وهو بالفعل مقاربةٌ قيميةٌ وأخلاقيةٌ كاملةٌ للوضعين الإسلامي والإنساني.
والذي أراه أنّ الميثاق يحتاج إلى دراسات وورش عمل في فلسفته ومبادئه واستنتاجاته. وهنا أُريد الإدلاء ببعض الملاحظات أراها مفيدةً في تعميق الفهم والإفهام.
الملاحظة الأولى أنه ميثاقٌ قيميٌّ وأخلاقيٌّ لا يختص دين دون آخر أو ثقافة دون أخرى. وميثاق حلف الفضائل هذا أصله من مكة قبل الإسلام حين نهض الحارث بن عبد المطلب عم النبي، صلى الله عليه وسلم، وعشرات من شبان مكة برفع الظلم عن زوار مكة والبيت الحرام، بإغاثة الملهوف وإنصاف المضطهَد ورعاية المهمل وإطعام الجائع وكسوة العريان. وكل ذلك بدافع كرم الأخلاق، والإحساس الإنساني، والإنكار على الظلم والتمييز. وقد أقرّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تحالف مكارم الأخلاق هذا بعد قُرابة أربعين عاماً، وإن يكن أساسه أخلاقياً وليس دينياً. العلاّمة بن بيه استلهم حلف الفضائل هذا للضرب على وتر إنسانية الإنسان. وهي الأصل الأصيل الذي يتجلّى في تسمية هذا الإعلان ميثاقاً، والميثاق في القرآن الكريم كان بين الله وعباده أو بني البشر قبل خَلْقهم (أَلستُ بربكم؟). وهكذا فإنّ الفضائل العربية مثلها مثل الفضائل والأعمال الصالحة الأُخرى في الأُمم والثقافات يمكن أن تتلاقى وتتضامن وتتماثل تحت مظلة الفضائل وإنسانية الإنسان.
وإلى شمول الميثاق لا يزال العلاّمة بن بيه يُعطي الدين الإبراهيمي بدعواته الثلاث وشرائعه الثلاث منزلةً خاصة: فهل يرجع ذلك إلى يقينه بتلاقي المُثُل الأخلاقية في اليهودية والمسيحية والإسلام، أم أنه أراد وحسْب أن تكون الديانات الإبراهيمية منطلقاً للتلاقي باعتباره يعرفها ويعرف أخلاقياتها جيداً، ويمكن من طريق «التعارف» الاندفاع باتجاه الديانات الآسيوية للإضافة والإثراء وشراكات القيم والأخلاق؟
وإلى النقطتين الأوليين، هناك الاتجاه التوكيدي عند الشيخ الجليل، والذي يتجلى في إرادته تحويل أو إيصال التسامح وفضائل الأخلاق إلى قوانين أو إلزامات. وهو أمر أراده كثيرون منا خلال أكثر من قرنٍ مع الشريعة الإسلامية أو على الأقل مع المدونة الفقهية.
والملاحظة الرابعة هذا الشمول الذي يتميز به الميثاق. وهو يتميز بائتلاف بين القيم والأخلاق، والدين، والقوانين والتنظيمات الدولية. وهكذا فالشمول ذو جانبين: جانب الفضائل والأخلاق بحيث لم تبق مأثرةٌ دونما ذكر، وجانب التلاؤم مع الأديان والشرائع والقوانين الدولية. وكلا الأمرين شديد الوضوح، ويتقصد الإنصاف وصنع الجديد والمتقدم.
*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت