أشد الانتقادات للجهود أحادية الجانب لإدارة ترامب، لإضفاء مشروعية على المستوطنات الإسرائيلية، لم تأت من زعماء عرب وأوروبيين. فعلى مدار سنوات، كانت تصريحات هؤلاء الزعماء بالإدانة متوقعة، لدرجة أن إسرائيل والولايات المتحدة دأبت على اللامبالاة بها. لكن أهم رد جاء في صيغة خطاب أرسله أعضاء من الكونجرس الأميركي لوزير الخارجية مايك بومبيو. والخطاب كتبه «آندي ليفين»، سيناتور ولاية ميشيجان، الذي دخل الكونجرس حديثاً، وقع على الخطاب 106 أعضاء من مجلس النواب، بالإضافة إلى السيناتور «الديمقراطي». صحيح أن خطاب ليفين ليس قانوناً وبالتالي بلا تأثير حقيقي على السياسة، لكن هناك عدة أسباب تجعله جديراً بالاهتمام.
وأهم ما في الخطاب أنه يدعم بقوةٍ قابلية تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة على الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. وجاء في الفقرة الثالثة والأخيرة من الخطاب إلى بومبيو: «قرار وزارة الخارجية يتجاهل بشكل صارخ الفقرة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تؤكد أن أي قوة محتلة يجب ألا ترحل أو تنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها. إذا كانت الولايات المتحدة تخلت من طرف واحد عن القوانين الدولية وتلك المتعلقة بحقوق الإنسان، فلا يمكننا أن نتوقع قرناً أكثر فوضى ووحشية من القرن الحادي والعشرين لأميركا وحلفائنا». وهذه هي المرة الأولى التي يدافع فيها عدد كبير من أعضاء الكونجرس عن تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. والواقع أن الكونجرس أصدر في عامي 1999 و2009، قرارات تشجب الجهود الدولية لتحميل إسرائيل مسؤولية انتهاكاتها للاتفاقيات.
والسبب الرئيسي لرفض الكونجرس تأييد الاتفاقات، كان إذعاناً لإصرار إسرائيل على أن استيلاءها على الأراضي الفلسطينية عام 1967 لم يكن احتلالاً، بل تشير إلى أن الأراضي كانت «مناطق متنازع عليها». ولذا، لطالما رفضت إسرائيل قبول انطباق الاتفاقات الدولية على الأراضي الفلسطينية، لأنها إذا انطبقت عليها، ستصبح إسرائيل مدانة بـ «ضم» أراضٍ محتلة، وإزالة عقارات ومنازل فلسطينية، وبناء مستوطنات لسكانها في هذه الأراضي، وسرقة موارد هذه الأراضي وطرد الفلسطينيين، الذين يسكنون هذه الأراضي ورفض عودتهم، ومدانة أيضاً بطائفة من انتهاكات حقوق الإنسان، التي ارتكبتها ضد الشعب الفلسطيني المحاصر، بما في ذلك التعذيب والعقاب الجماعي والاحتجاز غير القانوني.
واستغلت إسرائيل أيضاً جهود جماعاتها للضغط في واشنطن، لضمان ألا يمتنع الكونجرس عن اتخاذ أي إجراءات ضد إسرائيل فحسب، بل يمتنع عن استخدام كلمة محتلة في إشارة إلى الأراضي الفلسطينية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن كاتب هذه السطور عمل كواحد من ممثلي «بيرني ساندرز» في لجنة صياغة برنامج الحزب «الديمقراطي»، عام 2016. لكن جهودنا لإدخال كلمتي «الاحتلال» و«المستوطنات» قوبلت بمقاومة شديدة، وخابت مساعينا في نهاية المطاف.
لكن في السنوات القليلة الماضية، شهدنا بعض التطور في جدل السياسة بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فقد انتقد ثلاثة من المتسابقين «الديمقراطيين» البارزين على ترشيح الحزب لخوض السباق الرئاسي، المستوطنات الإسرائيلية واستنكروا نوايا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ضم أجزاء من الضفة الغربية. وهؤلاء «الديمقراطيون» يربطون أيضاً مستقبل المساعدات الأميركية لإسرائيل بالسياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين. والأسبوع الماضي، أقر مجلس النواب مشروع قانون تضمن، بين نقاط أخرى، دعم إقامة دولة فلسطينية ومعارضة قوية للضم الإسرائيلي لأي جزء من الضفة الغربية. لكن أياً من هذه الجهود، ليست بقوة خطاب السيناتور ليفين، الذي يجعل إسرائيل بطريقة غير مسبوقة مسؤولة أمام القانون الدولي.
صحيح أن «الديمقراطيين» استمدوا جرأتهم في القضايا الإسرائيلية الفلسطينية من نفورهم من التقارب الشديد بين ترامب ونتنياهو، لكن المؤثر في خطاب «ليفين»، هو أنه لم يركز على استياء «الديمقراطيين» من الرجلين. بل ركز الخطاب على أهمية تمسك الولايات المتحدة بقوانين حقوق الإنسان الدولية، ويطالب إسرائيل بالالتزام بما يقتضيه هذا، بصرف النظر عمن يتولى المنصب في السلطة في إسرائيل أو في الولايات المتحدة. والنقطة الأخيرة فيما يتعلق بأهمية خطاب ليفين، تتمثل في أن 107 أعضاء من الكونجرس وقعوا عليه. لقد كُتبت في الماضي خطابات مبادئ قوية بشأن القضايا الفلسطينية الإسرائيلية، لكن لم يحظ أي منها بمثل هذا الدعم. وصحيح أن جميع الموقعين على الخطاب «ديمقراطيون» لكن التنوع الذي يمثلونه مثير للانتباه. فمن بينهم زعماء مخضرمون في الحزب وأعضاء جدد وأميركيون من أصل أفريقي، ومن أصل لاتيني، ومن أصل عربي، وبعضهم يهود. لكن المزعج أن وسائل الإعلام الأميركية تجاهلت خطاب «ليفين» فلأنه خطاب وليس قانوناً، ربما لم يدرك البعض أهمية التحول الذي يمثله في الساحة السياسية. وهذه التغيرات ظلت تتجمع تحت السطح على مدار سنوات. وها هي الآن تصعد إلى السطح، وهذه القصة ما زالت فصولها تتكشف تباعاً.
*رئيس المعهد العربي الأميركي- واشنطن