مَنح مؤخراً البابا فرنسيس «جائزة جوزف راتزنغر» (البابا بنديكت السادس عشر) في اللاهوت للفيلسوف الكندي ريتشارد تايلور تتويجاً لأبحاثه الرائدة حول العلمانية وتأثيرها على الوعي الديني. لقد اعتبر تايلور بالمناسبة أن المعركة الهامة التي يخوضها البابا الكاثوليكي من أجل تعزيز قيم التسامح والسلم بين أتباع الديانات، تستدعي ثورة لاهوتية كاملة في مختلف التقاليد الدينية من أجل سد الطريق أمام دعوات التعصب والتطرف التي تستخدم الدين ذريعة لنشر العنف والفتن بين البشر.
تايلور يشير هنا بوضوح إلى نمطين متصاعدين من التطرف: أحدهما هو التطرف الموسوم بالإسلامي الذي ارتبط بموجة عاتية من حوادث الإرهاب والعنف في السنوات الأخيرة، وثانيهما نمط من الكراهية للإسلام والتطرف العنصري ضد المسلمين بالخلط بين النقد التاريخي والفكري للأديان والنظرة العدائية للإنسان المسلم (المهاجر واللاجئ على الأخص) من منظور ممارسته الدينية.
وفي ذلك المنظور يرى تايلور أن الخطاب اللاهوتي حول الغيرية والتعايش والتضامن، يحتاج إلى الإنعاش والإحياء في التقليدين المسيحي والإسلامي معاً، بدلا من اختزال الحوار في الاعتبارات الديبلوماسية والسياسية.
وفيما يخص التقليد المسيحي، يشير تايلور بوضوح إلى الجهود التي بدأت مع المجمع الفاتيكاني الثاني في بداية ستينيات القرن الماضي، من أجل كسر الهوة مع اليهودية والإسلام، وقد شهدت دَفعةً قوية مع البابا الحالي فرنسيس الذي أظهر انفتاحاً قوياً غير مسبوق على المسلمين وتبنى عدة مبادرات لتوطيد الحوار والأخوة معهم، أهمها على الإطلاق «وثيقة الأخوّة الإنسانية» الموقّعة في أبوظبي في فبراير 2019.
ومن الملاحظ هنا أن جهود البابا فرنسيس قد قوبلت برفض عارم داخل بعض الأوساط المسيحية المتعصّبة التي اعتبرت أن المسيحية والإسلام لا ينتميان لنفس التقليد التوحيدي وأنهما يختلفان جوهرياً من حيث البنية العقدية العميقة، سواء تعلق الأمر بمفهوم الألوهية أو بطبيعة النص ومقاربة التشريع (!). أن هذه الأطروحة التي تستند لخلفيات لاهوتية قديمة تغذّي في الوقت الحالي أخطر أنواع الكراهية ضد الإسلام من منظور ما أطلق عليه بعض الباحثين الجادين في الإسلاميات مقولة «الاسلاموفوبيا العالمة».
ما بيّنه تايلور هو أن الظاهرة العلمانية الحديثة في مرتكزيها الأساسيين (فصل الكنيسة عن الدولة، وتراجع البنيات المؤسسية للاعتقاد) تفتح آفاقاً جديدةً للممارسة الدينية حسب مسارات روحانية متداخلة تشكل الروحانية الإسلامية أحد روافدها الأساسية، وهو يعني هنا التصوف السلوكي الأخلاقي.
ومن البديهي أن محاولات إحياء اللاهوت المسيحي التقليدي (التومائي) القائم على الكوسمولوجيا ما قبل الحديثة والأرسطية من أجل الدفاع عن عقيدة الخلاص التقليدية، لن تجدي نفعاً في تنشيط الفكر المسيحي، كما أن النظرة الإقصائية حيال الإسلام بإرجاع جذور التعصب والعنف في سلوك بعض منتسبيه إلى مدونته النصية وتجاربه التاريخية المؤسسة، هي نظرة لا تصمد أمام النقاش العلمي الموضوعي، فضلا عن كونها تسد الطريق أمام المبادرات الشجاعة والكريمة التي ظهرت في العديد من الأوساط الإسلامية من أجل توطيد قيم التعايش والتسامح والأخوّة بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات (مثل المبادرات المنبثقة عن «منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة»، و«مجلس حكماء المسلمين»، و«رابطة العالم الإسلامي»، و«مركز حوار الديانات».. إلخ).
لقد لاحظ تايلور بحق أن تجارب التحديث في العالم الإسلامي لم تواكبها في بعض الساحات جهودٌ فكريةٌ جديةٌ لبناء منظومة تأويلية جديدة تستلهم قيم الإسلام الإنسانية الرحبة، مشيراً هنا بصفة خاصة إلى العالم الآسيوي الذي تتصاعد فيه نزعات التعصب والكراهية، كما هو الشأن لدى بعض الأطراف الدينية الأخرى.
إن التجديد الكلامي الذي كان من الأهداف الكبرى للحركة الإصلاحية في الإسلام (الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ومحمد إقبال..) توقّف فعلا مع طغيان النزعات الأيديولوجية السياسية متمثلة في «الإسلام الحركي» الذي حوّل الدين إلى مشروع سياسي ونظام للحكم، فتراجعت سبل الحوار العقدي المنفتح بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى.
ومن الجلي أن مقاربة الحوار الديني المطلوب لا يمكن أن تتم بمنأى عن مطلب التجديد الكلامي الذي لابد أن يستوعب نتائج وثمار الفلسفات التأويلية الراهنة التي أثّرت جذرياً على مفاهيم المناظرة والتواصل والحوار.. التي اشتغل عليها جدياً علماءُ الكلام في العصور الوسيطة وفق أدوات ومناهج عصرهم.
لا يتعلق الأمر بمجرد التأصيل الشرعي المطلوب لفقه حواري متسامح يستلهم تجربة العصور الإسلامية وأدبيات علماء الدين، وإنما بتجديد أمر الدين نفسه، وفق المصطلح المأثور، باعتبار وراثة الأمة لعصمة النبوة التي تمكِّنها من ترجمة قيّم ومعتقدات الشرع في الأنساق الثقافية المتغيرة.