في بداية الأسبوع الحالي، قامت الشرطة في جزر «ساموا» الواقعة غرب أستراليا في قلب المحيط الهادي، بإلقاء القبض على شخص من السكان المحليين، كان يروج على صفحته على الفيسبوك لأكاذيب حول التطعيمات الطبية، وبالتحديد التطعيم ضد الحصبة. وقبل هذا الإجراء الأخير، كانت حكومة الجزر قد أعلنت حالة الطوارئ الصحية، وأغلقت جميع المدارس إلى أجل غير محدد، ومنعت من هم دون سن السابعة عشرة من التواجد في التجمعات العامة، وطالبت العائلات التي لم يتلق أطفالها التطعيم، والذي أصبح إجبارياً بقوة القانون، بوضع أعلام حمراء خارج منازلهم، لإرشاد أفراد الطواقم الطبية إليهم.
وتأتي هذه الإجراءات القاسية، والتدابير الدراكونية، في أعقاب وفاة 63 شخصاً منذ شهر أكتوبر الماضي، معظمهم من الأطفال صغار السن، وهي المأساة التي أُلقي بجزء من اللوم فيها على عاتق سفهاء الفيسبوك، والذين استخدموا هذه الوسيلة الحديثة من التواصل الاجتماعي، لنشر الأكاذيب، وبث الرعب والخوف في قلوب الآباء تجاه التطعيمات الطبية. واستغل هؤلاء السفهاء حادثة مؤسفة وقعت في هذه الجزر النائية، وراح ضحيتها طفلان، نتيجة خطأ من ممرضة خلطت التطعيمات بأدوية وعقاقير مميتة، مما تسبب في وفاتهما.
ولا تعتبر «ساموا» الدولة الوحيدة التي أصبحت ترزح مؤخراً تحت نير انتشار متزايد لفيروس الحصبة. ففي عام 2018 وحده، فقدت كل من المملكة المتحدة وألبانيا وجمهورية التشيك، وضعها كدول خالية من مرض الحصبة، بعد أن أصبحت تسجل حالات إصابة بين أطفالها، وهو الوضع الذي يتوقع أن يزداد سوءاً في عام 2019، حيث يتوقع أن تسجل هذا العام حالات إصابة بفيروس الحصبة في دول أخرى، بعد أن كانت خالية منه. كما أنه في الولايات المتحدة، والتي كان قد أعلن عام 2000 خلوها هي الأخرى من المرض، سجلت السلطات الصحية العام الماضي أعلى معدل من الإصابات على مدار خمسة وعشرين عاماً الماضية، كما تعرضت كل من أوكرانيا ومدغشقر وجمهورية الكونغو الديمقراطي، لأوبئة محلية واسعة النطاق.
ويمكن إدراك حقيقة ما يحدث على الصعيد العالمي برمته، من الإحصائيات التي تظهِر أنه في عام 2000، تسبب فيروس الحصبة في أكثر من 28 مليون حالة عدوى، نتج عنها وفاة 535 ألف شخص حينها. وبحلول عام 2017، ونتيجة الجهود الصحية الوطنية والدولية، انخفض عدد حالات الإصابة إلى 7.6 مليون فقط، نتج عنها 124 ألف وفاة في ذلك العام. لكن في العام الماضي، عادت هذه الأرقام لترتفع مرة أخرى، لتبلغ 9.8 مليون حالة إصابة، نتج عنها 142 ألف وفاة، وهي الأرقام المرشحة للازدياد بحلول نهاية العام الجاري.
والحصبة هي مرض فيروسي معد، ينتقل عن طريق الرذاذ التنفسي أو الإفرازات التنفسية للمرضى المصابين به. ولا يوجد حتى الآن علاج محدد للحصبة، ويعتمد علاج الحالات التي لا تصاحب بمضاعفات، على الراحة وتلقي السوائل ومخفضات الحرارة. وتبلغ درجة شدة عدوى هذا المرض أنه إذا أصيب به أحد أفراد العائلة، سرعان ما سيصاب به 90 في المئة من باقي العائلة، إذا لم يكن أفرادها متمتعين بمناعة من خلال تطعيم أو إصابة سابقة. أما على صعيد الوقاية، فيمكن تحقيقها من خلال التطعيم، الذي تبلغ تكلفته دولاراً واحداً فقط في الدول النامية، مما يجعل التطعيم ضد الحصبة من أفضل الاستثمارات في مجال الصحة العامة، بالنظر إلى أرواح الأطفال التي يمكن إنقاذها من خلاله، في ظل تكلفته الزهيدة.
ولا يعتبر التطعيم ضد الحصبة الضحية الوحيدة بين التطعيمات الطبية المختلفة، والتي تعرضت في مجملها خلال السنوات القليلة الماضية لحملة شعواء من سفهاء الإنترنت والفيسبوك، والمعروفين بالمعادين للتطعيمات (anti-vaxxers)، والذين استغلوا نتائج دراسة مشبوهة صدرت قبل عدة سنوات، تم تفنيدها ودحض أكاذيبها من قبل جميع الجهات الصحية الدولية، ومن جميع المراكز العلمية المتخصصة والجامعات المرموقة.
وبدلا عن التطعيمات الطبية، والتي ثبتت فعاليتها وأمنها عبر عشرات السنين من الاستخدام المتواصل، أصبح هؤلاء السفهاء يروجون لسبل وقاية وطرق علاج غير مثبتة علمياً، ولا تزيد عن كونها شعوذات وخرافات. فالشخص مثلا الذي ألقي القبض عليه هذا الأسبوع في ساموا، كان يروج في صفحته على الفيسبوك لمنقوع أوراق شجرة «البابايا» لعلاج الأطفال الذين أصابتهم العدوى بفيروس الحصبة، وهي الادعاءات التي صدّقها البعض، وراح ضحيتها العشرات. وهو ما عاد ليلقي بالضوء مرة أخرى على الدور الذي أصبحت تلعبه الشبكة العنكبوتية في عالم الطب، وقطاع الرعاية الصحية في مجملة، محلياً وعالمياً. فرغم أن الإنترنت أصبحت وسيلة للحصول على المعلومات الصحية والنصائح الطبية، الصحيحة والثابتة والمؤكدة، فإنها أصبحت تعج أيضاً، وخصوصاً على وسائل التواصل الاجتماعي منها، بكم لا يستهان به من الأكاذيب والخرافات والسفاهات، والتي أصبح البعض يدفعون حياتهم ثمناً لها.