الدرس المستفاد من التحولات الأخيرة في السودان يشير إلى أن مشروع الإسلام السياسي كان يؤسس للفشل والانهيار منذ بدايته، وأن ما حدث من انهيار لنظام البشير كان سيحدث مهما تأخر أو تأجل. لأن المتاجرين بالدين لا يمتلكون مشروعاً قابلاً للتطبيق وتحقيق الإجماع الوطني، فما لديهم لا يتجاوز شعارات ومراهنات على صد المخالفين بالتكفير والتخوين.
كما أثبت التحول في المشهد السوداني أن العلمانية يمكن أن تكون قاسماً مشتركاً لإنقاذ المجتمعات من الحروب والانقسامات، على أن ترافقها تنمية اقتصادية تحارب الفقر وتدعم التعليم وتوفر المزيد من فرص العمل، بهدف إعادة ترتيب أولويات السكان، لكي يصبح الإنتاج في المقدمة، بدلاً من الصراعات العبثية.
ورغم أهمية الجانب السياسي والتوافق بين كافة القوى السودانية، فإن الجانب الاقتصادي يجب أن يظل في الواجهة، لأن الكثير من الإشكاليات التي تواجه شعوب المنطقة ترتبط بالاقتصاد قبل أي شيء آخر.
وفي الشأن السوداني أيضاً، وعلى صعيد مستجدات الأسبوع الماضي، وافقت الولايات المتحدة الأميركية على تعيين سفير لها في الخرطوم، بعد فترة انقطاع استمرت 23 عاماً، كان نظام الإسلاميين خلالها ينشغل بالشعارات وصناعة الحروب الداخلية وتجميلها وتبريرها، إلى أن تسبب في انفصال جنوب السودان.
وقبل أن يتجه المتاجرون بالدين مؤخراً نحو التطبيل للنموذج العثماني الجديد، الذي يغرق في أزماته بالتدريج، كانوا يرون في الخرطوم خلال عقد التسعينيات قِبلةً لهم ولمشروعهم القائم على الأوهام. وكانوا يتحدثون عن السودان ويعتبرونه يمثل طموحهم، ثم فشل ذلك المشروع.
لم يكن إدراج اسم السودان على لائحة الدول الراعية للإرهاب هو المأزق الوحيد الذي كانت له تداعيات اقتصادية قاسية، بل ضاعت من عمر السودان ثلاثة عقود في ظل حكم المتأسلمين الذين تحالفوا مع البشير منذ انقلاب 1989، وخسر السودان خلال هيمنة الإسلام السياسي ومرحلة «التمكين» الهشة الكثير من علاقاته ومصالحه. والأخطر من ذلك الحروب الأهلية التي اجتاحت البلاد وأضعفت السلم الأهلي. كما أدى الإصرار على تسييس الدين وعدم استيعاب الاختلاف والتعدد الثقافي والديني إلى انفصال جنوب السودان، بينما كانت العلمانية هي الخيار الأنسب للمجتمع السوداني لضمان التعايش وإنهاء الحروب الداخلية المتفرقة.
ورغم إعلان قيام دولة جنوب السودان فإن تيار الإسلام السياسي فشل في مواصلة حكم ما تبقى من الجغرافيا السودانية. وفي نهاية المطاف حدث التحول الأخير الذي أنهى سيطرة الإسلام السياسي على السلطة في الخرطوم بالتوافق بين العسكريين والقوى المدنية. وعلى ضوء هذه التطورات بدأت بوادر انفتاح دولي جديد تعلن عن نفسها، بعد حقبة من الجمود والعزلة سيطر خلالها الفصيل الإخواني بالتحالف مع بعض الضباط ذوي الميول الإخوانية، وفرض أجندة الأسلمة التي أدخلت السودان في لائحة الإرهاب وأعاقته عن الاهتمام بالتنمية.
لقد ألقت أجندة تسييس الدين خلال المرحلة السابقة بظلالها الكئيبة على علاقات الخرطوم الخارجية وشؤونها الداخلية، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً. وشهدت العلاقات بين السودان والولايات المتحدة خاصةً توتراتٍ أدت إلى فرض عقوبات وتسببت في إدراج السودان على لائحة الإرهاب. لكن يبدو أن تعهدات أميركية تم إطلاقها مؤخراً تمهد لرفع اسم السودان من لائحة الإرهاب، وذلك بالتزامن مع زيارة رئيس الحكومة السودانية الأسبوع الماضي لواشنطن. هذه المستجدات التي سعى السودان من أجلها تعثرت في السابق رغم المطالبات المتكررة، بينما أشار بيان للخارجية السودانية صدر مؤخراً إلى أن رئيس الحكومة ركز في مباحثاته مع المسؤولين الأميركيين على الشأن الاقتصادي وارتباطه برفع اسم السودان من قائمة الإرهاب. فيما جاء التعهد الأميركي على لسان وكيل وزارة الخارجية الأميركية ديفيد هيل. وخلال زيارة الوفد السوداني، كان وزير الخارجية بومبيو والرئيس ترامب خارج أميركا، لكن بومبيو غرد ليؤكد العزم على تبادل السفراء واعتبره خطوة تاريخية.
وبالطبع من المهم للمنطقة العربية أن يتعافى السودان وأن يستكمل طي صفحات الماضية وصراعاته، وهناك أرضية جديدة تساعد النخبة السودانية بالفعل على استثمار اللحظة الراهنة، من أجل التأسيس لمستقبل يسوده السلام والرخاء والتعايش.

*كاتب إماراتي