صدرت حديثاً طائفة من الكتب والمقالات تحاول فهم ما أخطأ فيه الاقتصاد وتقدم نهجاً جديداً لما يتعلق بهيكلة الاقتصاد على نحو يوفر إمكانية أكبر لتحسين الرفاهية الإجمالية للمجتمع. وبينما كنت اتصفح واحداً من هذه التحليلات، اندهشت لما اعتقد أنه، وآمل أن يكون، وعداً بتغيير أساسي في ممارسة الاقتصاد.
فمن الممكن، وإنْ لم يكن محتماً، أن يتطور علم اقتصاد جديد –أُطلق عليه «علم اقتصاد إمكانية الفعل» في مقابل «اقتصاد عدم إمكانية الفعل». وحين بدأت قبل بضعة عقود مشواري المهني في الاقتصاد السياسي في واشنطن، بدأ يتضح سريعا لي أن جزءا كبيرا من عمل الاقتصاديين من التيار الرئيسي يتمثل في أن عليهم أن يعللوا عدم إمكانية القيام بأعمال معينة يريدها صناع السياسة التقدميون حسنو النوايا.
ويتعين على الاقتصاديين أن يذكروا أنه قد تكون هناك نتائج عكسية لمبادرات مثل رفع الحد الأدنى للأجور وتقليص معدل البطالة عند مستوى منخفض للغاية وضخ استثمارات حكومية في صناعات معينة وتنظيم الأسواق المالية أو تقليص عدم المساواة بعد خصم الضرائب من خلال ضرائب تقدمية. والوصاية على الأجور تقوض «توازن السوق» مما يؤدي إلى بطالة هائلة. والبطالة المنخفضة للغاية تؤدي إلى تضخم متصاعد. وإذا حاولت الحكومة الاستثمار في قطاعات معينة فإنها ستعرقل كفاءة التخصيص في السوق. وتنظيم التمويل سيسحق ابتكاراته. وفرض ضرائب على الأثرياء سيقتل الحوافز لديهم، ومن ثم يضر بالاستثمار والنمو والوظائف.
لكن اتضح أن كل هذا خطأ. والآن بمقدورنا الانتقال من اقتصاد «عدم إمكانية الفعل» إلى اقتصاد «إمكانية الفعل». فرفع الحد الأدنى للأجور وتقليص العجز في الموازنة وخفض البطالة خطوات لا تحقق التأثيرات المطلوبة فقط، بل هي ضرورية لإحباط عدم المساواة الهيكلية الاقتصادية. والأدلة توضح أنه لا يتعين علينا التسليم بالنتائج القديمة السلبية ومن ثم يتعين علينا اختبار الأمور دوما.
وعلى النقيض من المدرسة القديمة، يرفض اقتصاد «إمكانية الفعل» بصرامة افتراض أن اقتصاد القطاع الخاص سيبلغ تلقائيا ظروفا مثلى لا يفسدها إلا تصرفات السياسة. فليس لنا أن نفترض، على سبيل المثال، أن «السوق» ستحقق التشغيل الكامل للأيدي العاملة. والواقع أن اقتصاد «عدم إمكانية الفعل» تستبد به فكرة منع التضخم، بينما اقتصاد «إمكانية الفعل» منشغل بفكرة بلوغ التشغيل الكامل للأيدي العاملة واستمرار هذا. وهذا يبدأ من الإقرار بان عدم توازن السلطة وكثرة رأس المال غير الخاضع للوائح التنظيمية سيهمل جماعات كبيرة من الناس- على أساس اختلافات عرقية غالبا- مما يضخم من فقاعات الائتمان ويؤدي إلى تلوث البيئة. وفي اقتصاد «إمكانية الفعل»، لا يمثل فشل الأسواق الاستثناء بل القاعدة.

ودعنا نسرد بعض نقاط المقارنة فيما يلي: «اقتصاد عدم إمكانية الفعل»، يجادل بأن بطالة أقل من 6% ثم 5% ثم 4% ستؤدي إلى تضخم متصاعد. أما اقتصاد إمكانية الفعل، فيدرك أنه لا يمكننا بشكل موثوق به أن نتعرف على أدنى معدل للبطالة يتوافق مع تضخم مستقر، لذا يجب أن نترك معدل البطالة ينخفض بقدر ما يستطيع ونراقب جيدا الأسعار وتضخم الأجور.
«اقتصاد عدم إمكانية الفعل» يجادل بأن العجز في الميزانية العامة يضغط على الاقتراض الخاص ويؤدي إلى نتائج استثمار أسوأ. أما «اقتصاد إمكانية الفعل»، فيدرك أن معدلات الفائدة المنخفضة نسبياً مقارنة بمعدلات النمو وتدفقات رأس المال العالمي سعياً وراء سندات الحكومة الأميركية الآمنة، تُقلص كثيراً الكلفة الاقتصادية للعجز في الموازنة. ومن ثم تستطيع الحكومة غالباً أن تقترض بأمان لتنفيذ استثمارات منتجة.
«اقتصاد عدم إمكانية الفعل» يجادل بأن عدم المساواة هو نتيجة لآلية الاستحقاق والتصدي لهذا من خلال قانون ضرائب سيحبط الحوافز لدى الناجحين.
«اقتصاد إمكانية الفعل» يدرك أن التمييز العرقي الماضي والحاضر وإمكانية الدخول غير المتساوية إلى سبل حركة الصعود الاجتماعي وإسقاط قوانين حماية النقابات وحقوق العمال، وصعود السلطة المركزة لصاحب العمل تعني أن نتائج السوق نفسها ليست ناتجة عن الاستحقاق بل نتيجة عدم توازن السلطة.
«اقتصاد عدم إمكانية الفعل» يجادل بأن التجارة الحرة تستحق دوما الاستمرار فيها. أما «اقتصاد إمكانية الفعل»، فيرى أنه لا وجود لشيء يمكن أن نطلق عليه «التجارة الحرة». التجارة تتحكم فيها قواعد يضعها الشركاء التجاريون وهذه القواعد بها فائزون وخاسرون.
لكن المحاذير كثيرة. فحين تتغير الأنماط، يحتمل أن يحدث تطرف في الجانب المقابل. وكما أشرت، فالعلاقة بين البطالة والتضخم أو العجز في الموازنة أو سعر الفائدة مازالت قائمة ويتعين مراقبتها. اتفاقات التجارة ربما تكون في الغالب فاسدة لكن تدفق التجارة قد يكون مفيدا للغاية، ليس فقط لنا، بل للدول النامية التي تحتاج لرأس مال لتحقيق نمو. وبعبارة أخرى، تجنب الحمائية يمثل قيمة في الاقتصاديْن القديم والجديد.
ولطالما جادلت بأن ما يبقي الاقتصاد القديم قائما رغم فشله الدائم في الاختبارات هو هيكل السلطة المدعوم بميزانية كبيرة. وهذا هو السبب الذي يجعلنا نواصل تقليص الضرائب بغرض تسرب الفوائد للطبقات الأدنى رغم أن هذا الخفض فشل في تغطية نفسه ولم يدعم الاستثمار، كما تم الترويج له، بل فاقم ببساطة عدم المساواة. وهيكل السلطة هذا مازال راسخا وسيستخدم نفوذه مثل إمكانية الوصول إلى وسائل الإعلام وشراء سياسيين وشبكة من المراكز البحثية لدعم اقتصاد عدم إمكانية الفعل.
لكن هناك جماعة جديدة من الاقتصاديين والسياسيين الذين يتبنون «اقتصاد إمكانية الفعل». وأنا أعلم أن هناك سياسيين من هذا النوع لأنني أتلقى كل أسبوع رسالة بالبريد الإلكتروني من واحد منهم يسأل قائلاً «لماذا لا يمكن فعل كذا؟» وكذا في كل مرة تشير إلى أحد الأمور التي يحظرها اقتصاديو «عدم إمكانية الفعل» ويكون ردي هو: سؤال جيد. يمكنك فعل هذا الآن.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»