عندما كانت قناة «سي إن إن» الأميركية، في سنواتها الأولى، في منتصف الثمانينيات، وبنيامين نتنياهو دبلوماسياً إسرائيلياً شاباً في الأمم المتحدة، حرص هذا الأخير على السفر بالطائرة إلى أطلنطا، حيث مقر القناة، من أجل التعرف على طريقة اشتغال هذا المخلوق الجديد، الذي يُدعى قناة إخبارية على مدار اليوم.
وقتئذٍ، كان نتنياهو يظهر على التلفزيون الأميركي بشكل منتظم، وذلك بعد أن انفصل عن بقية الدبلوماسيين الأجانب المفوهين، ليشق لنفسه مساراً خاصاً به، كخبير في مكافحة الإرهاب، في الوقت الذي أخذ فيه الأميركيون يتعاطون مع عصر جديد من العنف المسلح.
ويقول أنشل فيفر، مؤلف كتاب «بيبي: حياة وأزمنة بنيامين نتنياهو المضطربة»: «لقد لعب اللعبة حقاً، فقد فهم جيداً كيف يجعل من نفسه نجماً»، وخلال إقامته الدبلوماسية، حرص نتنياهو، الذي كان قد نشأ جزئياً في إحدى ضواحي فيلادلفيا، ودرس في معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا، على الظهور في البرامج التلفزيونية، ونسج علاقات مع سياسيين أميركيين، مُركزاً على الجمهوريين منذ ذلك الوقت، كما أغرى اليهود الأميركيين بجاذبيته وإنجليزيته الطليقة التي يتحدثها بلكنة أميركية.
وبحلول أواخر الثمانينيات، كان نتنياهو مستعداً للعودة إلى إسرائيل، وتدشين مساره السياسي الخاص، فجلب معه أسلوباً أميركياً من السياسة، غيّر المشهد السياسي الإسرائيلي وقيمه.
واليوم، بات رئيس الوزراء، الذي حكم إسرائيل أطول فترة، محاصَراً بالاتهامات والانتقادات، وربما يشارف على خروجه السياسي الأخير، بعد أن فشل في تشكيل حكومة جديدة، ووُجهت له اتهامات بالفساد رسمياً، غير أن تركته السياسية، التي شملت مؤخراً استيراد الشعبوية الترامبية إلى إسرائيل، قد تبقى وتستمر.
يقول دوغ بلومفيلد، وهو كاتب عمود ومسؤول في مجموعة الضغط «لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية» (آيباك): «لم يسبق أن كان ثمة زعيم إسرائيلي لديه مثل هذا الحس والشعور الغريزي بالسياسة الأميركية».
منذ تأسيس إسرائيل عام 1948، مثّلت أحزابُها السياسية الكثيرة أيديولوجيات مختلفة جداً، لكن بتوليه قيادة حزب «الليكود» اليميني، في أوائل التسعينيات، طوّر نتنياهو هذا الحزب، كمنصة شخصية له، كزعيم أكثر منها كمنظمة للقواعد الشعبية، هذا التطور يمكن رؤيته في تقدم شعارات حملة الليكود من «الليكود فقط يستطيع» في 1984، و«الشعب يريد الليكود» في 1988، إلى «نتنياهو قيادة أثبتت نجاحها»، أو الشعار الشعبي غير الرسمي «بيبي فقط» في 2019.
وفي عهد نتنياهو، أصبح مكتب رئيس الوزراء متمحوراً حول شخص من يشغله، وفق أسلوب الرئاسة الأميركي، سواء من حيث طريقة خوض الحملة الانتخابية، أو من حيث الطريقة التي يحكم بها.
والحال، أن النظام البرلماني الإسرائيلي ليس لديه نظام فصل السلطات، ومراقبة بعضها لبعض، الذي لدى الولايات المتحدة، وقد حاول نتنياهو تركيز أكبر قدر ممكن من السلطة في مكتب رئيس الوزراء، مع محاولة إضعاف كوابح الجمهور على السلطة، مثل الإعلام والنظام القضائي، كما تقول غايل تلشير، المحاضِرة في العلوم السياسية بالجامعة العبرية في القدس. وتقول تلشير، التي تؤلف كتاباً حول التغيرات البنيوية، التي طرأت على الأيديولوجيا السياسية الإسرائيلية: «إن التغييرات التي جلبها نتنياهو تتعلق بقواعد اللعبة».
هجوم نتنياهو، على المؤسسات التي تكبح سلطة رئيس الوزراء، لم يكتف بجعل المكتب رئاسياً أكثر، فالبعض يحاجج بأنه أضر بالديمقراطية، عبر الدوس على تلك المؤسسات، وعلى المبادئ التي خُلقت لتجسدها، ويقول فيفر: «إنه لم يحقق كل الأشياء التي حاول القيام بها، لكنه نجح في تركيز سلطة غير رسمية».
وقبل وقت طويل، على تولي ترامب الرئاسة الأميركية، واستخدامه التكتيكات التي اشتهر بها لاحقاً، ادّعى نتنياهو وجود مؤامرة كبيرة ضده، من قبل النخب في وسائل الإعلام والنظام القضائي في إسرائيل، وشمل ذلك تصوير الموظفين العموميين، بأنهم خونة خانوه بشكل شخصي.
وتقول تلشير من الجامعة العبرية: «لقد ساوى نتنياهو كلاً من الولاء الشخصي والمصلحة العامة، مع ما هو جيد لنتنياهو، بدلاً مما هو جيد لإسرائيل»، مضيفةً: «وهذا الفهم للولاء الشخصي أضعف الجانب الأيديولوجي لإسرائيل».
ومن جانبه، يقول شيمي شاليف، كاتب العمود بصحيفة «هآريتس»، ومراسلها السابق في الولايات المتحدة: «إن ما فعله ترامب هو تقوية بيبي (لقب نتنياهو)، لقد أراه إلى أي مدى يستطيع الذهاب».
وبعد أن أعلن المدعي العام الإسرائيلي، الذي كان قد عيّنه نتنياهو بنفسه، لائحة التهم ضده رسمياً الخميس الماضي، ظهر رئيس الوزراء على التلفزيون، حيث صوّر نفسه كضحية متعهداً بالمقاومة والصمود، كما شبّه الاتهامات بانقلاب، ودعا إلى التحقيق مع المحققين، بل إن بعض مساعدي نتنياهو وصفوا الأمر بأنه انقلاب من «الدولة العميقة»، على غرار المصطلح الذي يستخدمه الجمهوريون في الكونجرس، لوصف جلسات التحقيق ضد ترامب.
لكن هذه ليست المرة الأولى، التي يستخدم فيها نتنياهو وأنصاره مصطلحات ترامبية، وإذا كان الرئيس الأميركي قد أدخل مصطلح «أخبار كاذبة»، فإنه مفهوم كان يروّج له نتنياهو، الذي يُعد مناصراً كبيراً لترامب، قبل ذلك الوقت، وسرعان ما تبناه كمصطلح قدحي، يحيل إلى وسائل الإعلام الإسرائيلية.
وإذا كان نتنياهو في الماضي، الرجل الغريب في المناسبات الدولية باعتباره شعبوياً، يقول شاليف، فإن الرئيس ترامب ساعده على الشعور، بقدر أكبر من الراحة على الساحة العالمية، وشجّعه على تشديد أساليبه.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»