ظلت عمليات بناء الهويات والإجماع الوطني والسياسي تنتمي إلى تراث راسخ ومتراكم من العداوة والصداقة؛ بمعنى الحرب والسلم، وقد ظل الأعداء بما هم تهديد للبلاد والوحدة والمعتقدات والهوية أساساً لتجمع الأمم وتضامنها، كما كان الأبطال والشجعان والرموز على الدوام هم الذين يقاتلون الأعداء وينتصرون عليهم أو يموتون دفاعاً عن الوطن أو الأمة، لكن الأمم ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أعادت النظر على نحو استراتيجي؛ بمعنى الجدوى والاستمرار في تعريف أعدائها وأصدقائها، واستطاعت دول وأمم حاربت بعضها عقوداً وقروناً طويلة من الزمن أن تخرج من العداء إلى التعاون أو التنافس، كما نهضت دول دمرتها الحروب والعداوات لتعيد تعريف نفسها من جديد، فتحقق نهضة اقتصادية وعلمية مدهشة، والمثال الياباني والألماني حاضر ومتكرر.
إن سؤال العدو والصديق، على بساطته، يمثل ضرورة تأسيسية لبناء الرؤية والرسالة للدول والأمم والمؤسسات والأفكار والمصالح والعلاقات، وعندما استغنت الأمم المتقدمة عن الحروب والصراعات العنيفة كإطار للعداوة والصداقة، لم تتخل عن السؤال، لكنها أعادت تعريف العدو والصديق على نحو مختلف اختلافاً جذرياً عما دأبت عليه آلاف السنين. هي ببساطة حددت أعداءها في الفقر والتخلف والتعصب والحرمان والتهميش والظلم والكراهية والعنف والتطرف، ووجدت أصدقاءها في السلم الاجتماعي والتقدم والازدهار والحريات والكرامة. وعلى هذا الأساس وضعت رؤيتها لذاتها أمماً وأفراداً يحققون أفضل مستوى من الرضا والتقدم والاستقرار، وجعلت رسالتها في العمل من أجل أن تكون كما تحب وكما يجب.
هذا الوعي الذي يبدو بسيطاً أن نكون ما نحب أو ماذا نحب أن نكون، ثم ما يجب فعله لنكون ما نحب، أنشأ عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، بكل ما تضمنه من وعود جديدة غيرت الحياة والسياسة والعلاقات الدولية، كما الموارد والأعمال والإنفاق العام. والحال أن الحرب العالمية الثانية أنشأت صدمتين عميقتين في الوعي الإنساني العالمي، هما رفض الحرب وتسوية النزاعات بوسائل غير سلمية، وربما كانت الصدمة الأكثر عمقاً وتغييراً هي الوعي الجديد بالذات، ففي قدرة الإنسان على ترميز المعرفة آلياً، وتحويلها إلى أصفار وآحاد أو ومضات إلكترونية قادرة على الانسياب والتدفق، لم يعد يميز الإنسان نفسه بالعمل أو المعرفة أو الذكاء إلا في مجالات وحدود قليلة، وهي أيضاً مجالات تضيق كل يوم، ثم وفي قدرة الإنسان على أن يصنع آلة أقدر منه على أداء العمليات المعرفية بأضعاف مضاعفة، صار يعيد السؤال الملح وعلى نحو جذري، من نحن؟ الإنسان اليوم لا يتساءل فقط عن عدوه وعن صديقه، لكنه يتساءل أيضاً عن ذاته، والأمر وإن بدا جدلاً فلسفياً فإنه بالنسبة للأمم والدول ينشئ سؤالاً استراتيجياً عن الأولويات والموارد، فإذا كانت الآلات تحل محل الإنسان في كثير من الأعمال، فماذا يتبقى للإنسان ليعمل؟ وماذا يتبقى للدول كي تقوم به من أجل مواطنيها؟ وكيف تكون العلاقة بين أي دولة ومواطنيها؟ وعلى نحو عملي وتطبيقي، فإن الأمم تعيد النظر في إنشاء الموارد والأعمال، ويواجه الإنسان فرداً أو جماعة كيف يدبر حياته وعلاقاته في ظل منظومة اقتصادية واجتماعية لم تعد فيها الأعمال التي نعرفها اليوم؟ ماذا سيبقى من عمل؟ وماذا سيتغير في الأعمال؟ وماذا سوف ينشأ من أعمال جديدة في المستقبل؟
ما علاقة وعي الذات الجديد بالأمم وعداواتها وصداقاتها؟ لقد كانت الصراعات والتسويات مستمدة من الموارد الأساسية، الماء والكلأ أو الممرات والمواقع الاستراتيجية المهمة في الدفاع والتجارة، وذلك حين كانت الزراعة هي العمود الفقري للاقتصاد، وكانت الجغرافيا على قدر راسخ من الصلابة والثقل، هكذا نشأت الحدود ومنظومات الدفاع والاحتلال والمقاومة، والتعاون والتنافس والشراكة، وهكذا أيضاً تحددت العداوات والصداقات، وارتفعت قيم وانحسرت أخرى.. لكن اليوم، وفي ظل موارد جديدة ومعانٍ جديدة للحدود والجغرافيا والأمكنة، يتشكل وعي جديد للذات وإدراك جديد للعدو والصديق.
ونشأت تبعاً لذلك مقاييس ومحددات جديدة للنجاح والفشل، فالنجاح بما هو الازدهار والتقدم والاستقرار، يعتمد اليوم على اقتصاد معرفي غير مادي، يتدفق في الفضاء متخطياً الحدود والسلطات والجغرافيا، يجعل قدرة الأمم على النجاح مستمدة من رأس المال البشري الذي يعتمد على المشاركة والتقبل والتعلم والصحة، وفي المقابل فإن الفشل بما هو انخفاض مستوى التنمية الإنسانية مرده إلى عدم القدرة على المشاركة، سواء أكان ذلك لضعف في القدرات المعرفية، أو بسبب أفكار وأيديولوجيات تعوق المشاركة مع العالم والانتماء إليه. وهكذا أيضاً يمكن أن نلاحظ ونفسر كيف انتهت الحروب بين الأمم، لكنها تصاعدت داخل الأمة نفسها، لأنه وببساطة لم يعد العدو خارجياً، ولكنه بات ذاتياً وداخلياً، ينشأ ويهدد بسبب التعصب والكراهية وعدم القدرة على التعاون والعيش معاً.