يتطلب بناء الثقافة الموسيقية في المجتمعات الكثير من الوقت والجهد على مدى أجيال متعاقبة، لأن تنمية الذائقة بأشكال الموسيقى الكلاسيكية الراقية والمتعددة لا تحدث خلال فترة وجيزة، ولأن ذائقة الأجيال الأكبر سناً تختلف عن ذائقة الشباب المنفتح على آفاق عالمية لا حدود لها.
ورغم المنافسة التي يشهدها قطاع الفنون البصرية وتطور السينما وجاذبية الإنتاج المرئي المتنوع، فإن الموسيقى استطاعت أن تحافظ على مكانتها في عالم اليوم، بل وتمكنت من غزو وسائط الميديا الحديثة في عصر الإنترنت، وأصبح بإمكان المتلقي الإصغاء إلى سيمفونيات بيتهوفن وموزارت وتشايكوفسكي وغيرهم من مؤلفي موسيقى القرن الثامن عشر من خلال أحدث التقنيات الرقمية.
ورغم ذلك لا تزال هناك عوائق بنيوية مترسخة في الوجدان الثقافي لدى شعوب منطقتنا العربية، إضافة إلى شعوب وأمم أخرى، عوائق تقوم بدور الحاجز النفسي الذي يؤجل تأسيس ذائقة تستوعب الأعمال السيمفونية وغيرها من الفنون. وأقصد بها تلك العوائق ذات الصلة بما اعتادت عليه الأذن من ميل فطري للأشكال الموسيقية الطربية المباشرة، أو تلك الألوان الشعبية البسيطة الخالية من التركيبات الهارومونية الأكثر تعقيداً. بينما يتطلب الإصغاء إلى السيمفونيات مساحة من التربية الموسيقية التي يميل صاحبها إلى تذوق البعد التعبيري الأكثر تعقيداً في الموسيقى والأكثر تجاوزاً للفنون البدائية.
من هذا المدخل يمكن النظر إلى النشاط الدؤوب الذي تبذله أوركسترا الإمارات السيمفونية للشباب، والتي احتفلت الأسبوع الماضي في فعالية استثنائية على مسرح ندوة الثقافة والعلوم بدبي، بذكرى مرور 25 عاماً على تأسيسها، وتَرافَق الاحتفال مع مهرجان أوركسترا الإمارات السيمفونية للشباب الخامس عشر للسلام.
وتظل الموسيقى السيمفونية مثل غيرها من الفنون التعبيرية التي لا تمتلك جذوراً في ثقافتنا العربية، الأمر الذي يجعل الاهتمام بها على مستوى التلقي والاهتمام والمتابعة من الأنشطة النخبوية التي تستقطب جمهوراً محدوداً. ويضاف إلى الطبيعة النخبوية لهذا النمط الموسيقي، أن أولويات الأفراد في هذا العصر وخيارات الترفيه أمامهم صارت مفتوحة ومتعددة، ما يقلل الاهتمام بفنون كلاسيكية عريقة مثل الأوبرا والسيمفونيات والمسرح الغنائي وغيرها من الفنون التي تشترط امتلاك مفاتيح أساسية لتلقيها والاستمتاع بها.
ولعل من عوائق تذوق الموسيقى الكلاسيكية في البيئة العربية بشكل عام، إلى جانب ندرة التأليف الموسيقي، أن التأليف والتلحين الموسيقي في البيئة العربية ظل يقترن دائماً بالغناء والكلمات التي تحتل الأولوية، بينما تأتي الموسيقى في المرتبة التالية بوصفها الجسر أو الخلفية الهامشية التي تتفوق عليها القصيدة أو كلمات الأغنية بالنسبة للمستمع. بينما بدأت السيمفونيات في الغرب منذ القرن الثامن عشر تصقل ثقافة موسيقية كلاسيكية، اقترنت في البداية بالأرستقراطية في الصالونات الغربية، ثم أصبحت متناً في الحفلات الموسيقية الأوركسترالية التي يحضرها الجمهور.
وعندما نتحدث عن الموسيقى بوصفها لغة عالمية مفهومة من قبل جميع البشر، فذلك يعود إلى طبيعة الإيحاءات النفسية والروحية التي يشترك الناس في الشعور بها عند الإصغاء إلى الأنغام، وما تفعله بالنفوس من تهذيب للإحساس وسمو بالأرواح، إلى درجة استخدامها من قبل بعض الأطباء في بعض حالات العلاج النفسي، لما لها من أبعاد روحانية تبث السعادة والشعور بالطاقة الإيجابية.
ولا ننسى أن الإمارات منارة للتسامح والتعايش، ولا توجد لغة للتقريب بين البشر والحث على السلام بين الأمم أكثر من الموسيقى. إلا أن ما لفت الانتباه قيام بعض الأصوات النشاز قبل أيام بنشر تغريدات سلبية ضد بث موسيقى كلاسيكية، في الوقت الذي تزامنت فيه الحملة غير المبررة من قبل موتورين مع مرور 25 عاماً على تأسيس أوركسترا الإمارات السيمفونية، التي انطلقت منذ عام 1993، وفي رصيدها حتى الآن الكثير من الحفلات والأعمال التي ارتبطت بأنشطة خيرية وثقافية، بالإضافة إلى تدريب عازفين من الشباب، والمشاركة في محافل عالمية، واستقطاب جمهور لم يكن يتوقع أن لدى الإمارات فرقة أوركسترا سيمفونية متكاملة ومحترفة.
وليست هذه المرة الأولى التي تظهر فيها فقاعات يحاول أصحابها التسلق على عاطفة البسطاء للمتاجرة بالخطاب الديني في غير محله. كما أن تحريم الفنون أو محاكمتها من منظور ديني أصبحت قضية مكررة ومردود عليها من قبل علماء الدين الذين يدركون أن الدين لا يتناقض مع الفنون الجميلة التي تهدف إلى الارتقاء بروح الإنسان وتنمية ذائقته.

*كاتب إماراتي