قبل ثلاثين عاماً من الآن، انهار جدار برلين الذي قسم المدينة الألمانية، وتدفق آلاف الألمان الشرقيين على برلين الغربية للاحتفال بتحررهم من دولة دكتاتورية لا ترحم، دولة لم تتمكن من البقاء في السلطة سوى بسبب الستار الحديدي وبالاعتماد على الوجود الكبير لقوات الأمن السوفييتية. وأحد أسباب التغيرات الدراماتيكية التي شهدتها أوروبا الشرقية الخاضعة لسيطرة السوفييت كان قرار الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف عدم استخدام القوة لمنع احتجاجات المدنيين. وبعد عامين على ذلك، انهار الاتحاد السوفييتي نفسه في ديسمبر عام 1991 ووضعت الحرب الباردة بين الشرق والغرب أوزارها على ما يفترض.
وكان ما تلا ذلك خلال عقد التسعينيات فترة نجاح للدبلوماسية والسياسة الأمنية الغربية، ومن ذلك قيام الائتلاف الدولي الاستثنائي الذي شكّله الرئيس الأميركي جورج إتش. دبليو. بوش من أجل طرد قوات عراق صدام حسين الذي احتل الكويت في أغسطس عام 1990. ذلك أن الحرب القصيرة التي اندلعت بعدئذ في ربيع عام 1991 كانت مدعومة من قبل مجلس الأمن الدولي وأوروبا واليابان وغالبية بلدان العالم العربي، وربما الأهم من ذلك كله أنها كانت مدعومة أيضاً من قبل الاتحاد السوفييتي نفسه خلال الأشهر الأخيرة من عمره. لذلك سُميت فترة التسعينيات بـ«اللحظة أحادية القطبية» للولايات المتحدة الأميركية. وكانت أميركا القوة العظمى الوحيدة ومهندس ما عرف لاحقاً باسم «النظام العالمي الجديد».
لكن على غرار كل فترات الانتصار في التاريخ، كان مكتوباً على «لحظة أميركا» أن تنتهي، ليس بشكل مباغت كما حدث مع انتهاء الاتحاد السوفييتي، وإنما بشكل تدريجي بطيء وعلى مدى العقدين الأولين من القرن الجديد. المؤشرات الأولى لهذا الموت أتت في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 مع الهجمات الإرهابية التي نفذها تنظيم «القاعدة» في نيويورك وواشنطن. وتحت رئاسة جورج دبليو. بوش، شنّت الولايات المتحدة حربين، أولاهما كانت في أفغانستان في خريف عام 2001، وبعد ذلك بعام ونيف، جاء غزو العراق في مارس عام 2003.
إن تأثير تينك الحربين، وخاصة غزو العراق، غيّر الأوضاع الجيوسياسية للمنطقة بشكل واسع وجذري. فالجهود الأميركية لجلب الديمقراطية إلى كل من أفغانستان والعراق لم تحقق نتائجها المرجوة في نهاية المطاف، والكلفة الباهظة من حيث الأرواح والأموال كانت ثقيلة بالنسبة لكل الأطراف دون استثناء. واليوم، ما تزال لدى الولايات المتحدة قوات عسكرية في كلا البلدين، في غياب أي مؤشر واضح بشأن أمد بقائها بالنظر إلى الوضع الخطير على الميدان في كل من العراق وأفغانستان وعجز الدولتين عن تدبير أمنهما دون الاعتماد على الولايات المتحدة وقواتها المتواجدة ميدانياً.
وقد بذل كل من الرئيسين باراك أوباما ودونالد ترامب جهوداً لسحب كل القوات الأميركية من هناك وإعادتها إلى التراب الأميركي، لكن أوباما فشل في ذلك، أما ترامب فيفتقر لخطة انسحاب قابلة للتنفيذ دون أن تبدو كنوع من الاستسلام أو الرحيل الإجباري.
وخلال فترة التدخل الأميركي العميق في الشؤون الأمنية لمنطقة الشرق الأوسط الكبير، حدثت الانتفاضات العربية في عام 2011، ومن جديد غيّرت صدمات تلك الأحداث الخارطة الاستراتيجية للشرق الأوسط. وهناك حدثان أديا إلى هذه التغيرات: الحرب الأهلية السورية وظهور تنظيم «داعش». فكلا الحدثين تسببا في اندلاع فوضى واشتعال اضطرابات عبر المنطقة، كما أديا إلى ظهور لاعبين دوليين وإقليميين في كل من العراق وسوريا ولبنان.
أما في آسيا، فإن التغيير الأكثر دراماتيكية خلال العقدين الماضيين كان هو تنامي قوة الصين الاقتصادية والعسكرية واستعدادها لتحدي المعايير الغربية المدعومة من قبل المؤسسات التي أنشئت في نهاية الحرب العالمية الثانية، لاسيما البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وكان الافتراض هو أن الدولار الأميركي هو العملة المعيارية للتجارة العالمية، لكن الصين باتت تتحدى الولايات المتحدة بشكل صريح بخصوص موقفها من النظام العالمي، وتؤكد أنها لن تمتثل لـ«قواعد اللعبة» القديمة. وفي الأثناء، دخلت إدارة ترامب في حرب تجارية مع الصين، لكنها تفتقر لاستراتيجية شاملة بخصوص كيفية التعايش مع الصين الصاعدة.
اليوم، تدهورت علاقات أميركا مع روسيا والصين والأصدقاء المقربين السابقين في أوروبا. كما أن الثقة في الزعامة الأميركية باتت متدنية عبر العالم. بيد أن هذا النظام العالمي المتغير لا يعني ظهور قوة عظمى وحيدة أخرى، لكنه يطرح بالفعل بيئة دولية مختلفة جداً وأكثر خطورة من تلك التي ظهرت قبل ثلاثين عاماً من الآن.