تزيد الحاجة إلى المعلم لكن تقلّ الحاجة إلى غرف ومبانٍ مدرسية وأنظمة تعليمية نمطية، فالمدرسة تتحول إلى نادي تعليمي اجتماعي، يتجمع فيها التلاميذ بحرية وعفوية لأجل النشاط التعليمي والثقافي والاجتماعي والرياضي، والمعلم يتحول إلى مرشد أكاديمي وتربوي واجتماعي وصحي، يقدم المعرفة ويتابع التحصيل العلمي من خلال الشبكة، ويلتقي التلاميذ ليس لأجل التعليم المباشر لكن للإرشاد والمتابعة والتنسيق، وفي ذلك يصعد التعلم الذاتي والتعليم المستمر كما الفروق الفردية، ويكون في مقدور المعلم أن يقدم لكل تلميذ على حدة ما يحتاج إليه على نحو خاص وحسب مستواه المعرفي وحالته الصحية والاجتماعية والنفسية، ستنتهي الدروس الموحدة والتعليم المتشابه لجميع التلاميذ بالتساوي، لكن سيتلقى كل واحد حسب قدرته ومواهبه واتجاهاته وسوف يتفاوت التلاميذ بالطبع برغم تساوي أعمارهم في التقدم التعليمي كما المهارات والمواهب والاتجاهات، سوف تتجه عمليات التشابه والتنظيم الاجتماعي والأخلاقي نحو القيم والتعاون والعمل والعيش معا والتقبل والحوار والاستماع والجدل.. وتصعد الأسرة أيضا كشريك فاعل ورئيسي مع المدرسة والمعلمين والسلطات السياسية والمحلية في شؤون التعليم والتنشئة والتغذية والصحة.
يمثل المعلم حجر الزاوية في التقدم المنتظر، وربما لا يكون اليوم لدى الأمم لصناعة المستقبل واستيعابه سوى المعلم، لكن المعلم الرائد يحتاج إلى معارف وقيم جديدة، وربما لا يكون أحد قادراً على تزويده بها بكفاية، المعلمون هم الذين ينشئون أو يقترحون أو يبدعون التصورات والأفكار والقيم التي ستتحول إلى مناهج وتجارب تعليمية للجيل التالي من المعلمين، لأنها منظومة تتشكل لأول مرة من ميدان التعليم وما يمكن أن يلتقطه المعلمون والقائمون على التعليم من تحديات وفرص وأفكار جديدة ومختلفة. المعلمون يغيرون العالم!
ويبدو أننا نُحمل المعلمين فوق طاقتهم، وخاصة أنهم على مدى العقود الماضية تعرضوا لكثير من العقوق والإهمال والتهميش، وفقدت مهنة التعليم كثيراً من جاذبيتها ورسالتها، كما ضعفت كثيراً مؤسسات تدريب المعلمين وتأهيلهم، لكن لا مناص من العودة إلى المعلم لأن التعليم هو البداية الحتمية للإصلاح واستيعاب المستقبل وصدماته، ولأننا في واقع الحال لا نملك خياراً واضحاً سوى التعليم، إذ يشكل رأس المال الإنساني اليقين الوحيد لمواجهة التحديات التي بدأت تحل مصاحبة للثورة الصناعية الرابعة وتغير كل شيء تقريبا، من الموارد والأعمال والمهن إلى التنظيم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للأمم إلى القيم والثقافة الحاضنة والضامنة للسلام والتقدم وإنشاء موارد جديدة و/أو تعظيم الموارد القائمة وحمايتها وتجديدها، هكذا فلا نملك لمواجهة مستقبل يبدو مزلزلاً سوى تعليم كفؤ وصحة جيدة يمكنان الجيل القادم من العمل والإبداع وإنشاء حياة جديدة ستكون مختلفة اختلافا كبيراً عن الجيل الحاضر. إنها المرة الأولى في التاريخ (ربما) التي يعلّم ويقود فيها الجيل الناشئ الجيل السابق، الأطفال اليوم هم الذين يخططون للمستقبل ويفكرون له ويصنعون طريقه. نبحث عن طريق غير موجودة، فالطرق كما يقال تصنعها الخطوات، وليس لدينا سوى أن نستوعب التحدي ونفكر في ما يمكن عمله بما نملك من خيال وحسن نية، ونقتبس التجارب والأفكار الجديدة الناجحة،.. لكن مرجح إن لم يكن مؤكدا أننا نستطيع تجنب الفشل، إذ استطاعت أمم كثيرة أن تعبر التحدي وتحول أزمتها إلى نجاح.
يفترض أن تتطور وعلى نحو فوري وسريع منصات للتعليم والمتابعة الشاملة في التحصيل والكفايات والقيم المعرفية والمهنية، وأن تجري عمليات واسعة في المدارس والأسر نحو التفاعل مع الشبكة على النحو الذي يحولها إلى مصدر عملي ومتقدم للتعليم، وسنستطيع بذلك إعادة توجيه الموارد والإنفاق العام على التعليم باتجاه تطوير قدرات المعلمين والناس جميعاً، وأن نحول المدارس إلى فضاءات اجتماعية وإرشادية وإبداعية، وأن نتوسع في تقديم المحتوى وفي الترجمة وملاءمة التعليم مع الشبكة والتفاعل معها، وربما يكون في مقدور الأمم أن توفر التعليم المجاني والمتقدم لجميع الناس على مختلف أعمارهم، ولن يكون حائلاً تقنياً أو مالياً أمام أحد من الناس ليعلم نفسه ما يشاء وما يحب وما يحتاج إليه، إنها فكرة تبدو اليوم ممكنة جداً، ولا نحتاج سوى جرأة العبور إليها، ذلك أن الواقع القائم يظل برغم إدراكنا بضرورة إصلاحه أو تغييره موضعا لعواطفنا ومشاعرنا التي تحمينا (نتوهم أنها تحمينا) من المستقبل ومخاوفه، وبطبيعة الحال فإننا نحب أن نعيش ونسلك كما نفكر ونشعر. لكن ليس دائماً ما يجب أن يكون هو ما نحب أن يكون.
وهكذا يتقدم الإنسان نحو غايته الجليلة الأساسية بما هي المعرفة والحياة الأفضل، إذ الرواية المؤسسة للإنسان أنه أراد أن يعرف وأراد الخلود، وعلى نحو ما فإن الصحة بما هي الحياة أطول فترة ممكنة تمثل للخلود، والمعرفة تمكن الإنسان من وضع الأشياء في موضعها الصحيح، وهذه هي السعادة.
*كاتب وباحث أردني