بما أننا في عام التسامح، فمن المناسب أن نتذكر حكيم الصين العظيم «لاو تزو»، وكتابه الخالد (داو دي تشينغ)، وتلك العبارة الجميلة في الفقرة التاسعة والستين، من ذلك الكتاب «ليس هناك حظ أسوأ من أن يكون لك أعداء..عندما يتقابل الخصمان، فإن الذي لا عدو له سيحرز النصر بالتأكيد. وعندما يتبارى جيشان متكافئان، فإن الجيش الذي يتعامل بعطف هو الذي سيكسب». هل لنا أن نحلم بأنه يوماً ما، سيكون عالمنا عالماً واحداً بإرث مشترك يربط كل البشر على كوكب الأرض، عالم لا يستخدم مصطلح «الأعداء» مطلقاً، ويعتبر أن كل إنسان فرد من أمة واحدة نشأت عن مصدر واحد؟ بالنسبة للحكيم الصيني «لاو تزو»، إيذاؤك لأي إنسان، بالقول أو الفعل، هو إيذاء لنفسك أنت.
هذه الصورة المتخيلة لم تحدث قط في كل تاريخ البشرية، لكنها كانت حلماً وأملاً أساسياً لهذا الحكيم الكبير، هذه الرؤية تبدأ من الآن، ومن هنا، ومني ومنك ومنه ومنها ومن كل أحد، عندما نزيل مفهوم «العدو» من كل حياتنا، فلا نفكر من خلال هذا المصطلح، ولا نستخدمه في لغتنا اليومية، هذا المنهج ليس مشروعاً شخصياً، بل يحثنا هذا الحكيم العظيم على أن نكون قدوات للآخرين من حولنا، بحيث تؤثر هذه الموجة في شريحة كبيرة من الناس، والموجة تؤثر في موجات أخرى، حتى يصير عندنا في مستقبل الأيام، عالم من دون أعداء.
هذا الكلام يبدو وكأنه نسيج من الأحلام، أفكار صعبة التحقيق، في عالم يتحكم فيه الغضب والخوف، لكن هذا العالم موجود فعلاً وحقاً وصدقاً، حكى «د. واين داير» ذات مرة أن أحد المجرمين هاجم مدرسة لطائفة «الآميش» في بنسلفانيا، وشرع في قتل العديد من الفتيات الصغيرات، وكيف أن أهالي الضحايا المسالمين عاشوا حزن الواقعة، وكلهم رضا بهذه الخسارة العظيمة، ولم ينسوا أن يدعو أسرة القاتل ليقاسموهم الحزن والحداد في جنازة جماعية، ولم يفتهم أن يصلّوا من أجل القاتل، كما صلّوا من أجل القتيلات، وكان من ضمن ما قاله رئيس طائفة «الآميش» في ذلك التأبين: «نحن قوم بلا أعداء، نحن جميعاً أبناء الله، والعفو من صميم عقيدتنا، وإذا لم نتمكن من أن نغفر لمن ماتوا، برغم خطيئتهم، فإن معتقداتنا ستصبح بلا قيمة»، هذا الحلم ليس خاصاً بـ«الآميش»، بل موجود في كل البشر من كل المذاهب والإثنيات.
الفهم القديم لقضية الصراع، يجعله تضييقاً لرؤيتنا، ويحد من الخيارات المتعددة المفتوحة التي يمكن أن نحظى بها، صراع لا ينتهي بين الأطراف، قتال يجعل الحياة قائمة على الكراهية والرغبة في الانتقام، أما الفهم الجديد للكلمة نفسها، فهو أن نعتبر القضية لا تتجاوز الخلاف، خلاف لا يتحول إلى صراع، فالشخص الذي يحمل وجهة نظر أخرى لا ينبغي أن يتحوّل إلى عدو لمجرد الاختلاف، الصراع هو حالة من غياب الوعي، بالنسبة إلى «لاو تزو»، لكن الحكيم الصيني لا يخلو من الواقعية، عندما يقرر أن الحروب قد تكون اضطرارية أحياناً، فينصح عندها بأخذ موقع المدافع لا المهاجم، هذه الواقعية تعني أن من حقنا أن ندافع عن أنفسنا وعن نمط حياتنا وحريتنا واختياراتنا، من دون أن أعتبر الآخر عدواً، «فالشخص الذي لا عدو له سيحرز النصر»، فلنكن هذا الشخص.