في خضم احتجاجات الحراك الشعبي في لبنان والمطالبة بوقف هدر أموال الدولة ومحاكمة الفاسدين، تقدم عدد من الوزراء والنواب وبعض المحسوبين عليهم، بطلب رفع السرية المصرفية عن كامل حساباتهم، في محاولة منهم للتبرؤ من تهم الفساد والأموال المنهوبة، والتي قدرت بعشرات مليارات الدولارات، ما أدى إلى عجز خزينة الدولة وتراكم الدين العام الذي تجاوز 90 مليار دولار، وأصبح يهدد بانهيار مالي واقتصادي، مع تراجع الثقة الدولية بمدى قدرة لبنان على النهوض.
«السرية المصرفية»، هي نظام قانوني مصرفي يسمح للمصارف بالحفاظ على سرية المعلومات المتعلقة بزبائنها عن طريق استعمال عدة طرق، منها أرقام لحسابات مصرفية بدلاً من أسماء حقيقية، ويعتبر هذا النظام وسيلة من أهم وسائل إغراءات المنافسة العالمية لجذب الودائع والاستثمارات. وترتبط السرية المصرفية بمفهوم الحرية الشخصية للإنسان التي تتضمن المحافظة على أسراره المالية والاجتماعية وغيرها، وكذلك ترتبط بأخلاقيات المهنة التي تشمل الواجبات الأدبية والإنسانية. وبقدر ما يحافظ المصرف على أسرار عملائه بقدر ما يزداد عددهم ويرتفع حجم تعاملاتهم. فضلاً عن أن كتمان المعاملات المصرفية له مردود إيجابي على الاقتصاد الوطني بما يوفره من ثقة للائتمان العام باعتباره مصلحة عليا للدولة. وقد كان لبنان سباقاً في هذا المجال بإصداره في الثالث من سبتمبر 1956 قانوناً تلتزم المصارف بموجبه بتطبيق «السرية المطلقة» التي وصفت بانها من أكثر «أنواع السرية» المطبقة في العالم والأوسع شمولاً، لذلك استفاد منها كثيراً وحظي بمكانة مالية واقتصادية استثنائية جعلت منه ملاذاً آمناً للرساميل الأجنبية الوافدة، حتى سمي لبنان «سويسرا الشرق» في فترة الستينيات من القرن العشرين، وتمكن من مضاعفة ودائعه المصرفية التي وصلت إلى 180 مليار دولار حالياً، أي ما يعادل نحو أربعة أضعاف حجم اقتصاده (أي ناتجه المحلي GDP). ولكن هل يمكن أن يؤدي كشف السرية المصرفية إلى استعادة الأموال المنهوبة؟.
لم تتوافر حتى الآن معلومات دقيقة وشفافة عن حجم الأموال المنهوبة نتيجة الفساد الذي يعاني منه لبنان منذ عشرات السنين، وإذا كانت منصات التواصل الاجتماعي تكشف عن 320 مليار دولار مهدورة، ويجب تحصيلها من الفاسدين، فإنه وفق تسريبات «سويس ليكس» لقائمة 100 ألف حساب مصرفي في الفرع السويسري لبنك «أتش أس بي سي»، يستعمل أصحابها السرية المصرفية، يحتل لبنان المرتبة 12 برصيد للعملاء اللبنانيين يزيد على 5.8 مليار دولار، مع العلم أن هناك وسائل عدة لإخفاء الأموال غير المشروعة، منها وضع أموال نقدية ومجوهرات وسبائك ذهبية خارج المصارف، وحتى في خزائن حديدية تستأجر من المصارف، تأسيس شركات وهمية، ولاسيما في جنات ضريبية مثل بنما وجزر البهاماس والجزر البريطانية العذراء، وكذلك شراء عقارات بأسماء أقارب أو مقربين، إضافة إلى تبييض الأموال لاسيما عبر القمار، وهو أمر شائع. لذلك يلاحظ أن حكومات دول كبرى تعجز عن تتبع الأموال المنهوبة، على رغم استخدامها بما تسمح به اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، في إطار معركة تقودها الدول النامية.

*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية