أثارت التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسي التي وصف فيها حلف شمال الأطلسي (الناتو) بأنه «في حالة موت سريري»، موجة من ردود الأفعال، وقد تم اختزال هذه التصريحات في العبارة السابقة علماً بانطوائها على رؤية متكاملة للنظام الدولي وموقع أوروبا منه بغض النظر عن مدى اتفاقنا أو اختلافنا معها، وكذلك عن إمكانية تحقيقها أو استحالتها. وقد بنى ماكرون تشخيصه للحلف على حقيقة واقعة، وهي غياب التنسيق الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وشركائها في الحلف. ويُفهم من تصريحاته أنه يقصد الخطوات الأميركية الأخيرة في سوريا، كما أضاف أن الحلف «لا يضبط أعضاءه، ففي اللحظة التي يشعر فيها أحد الأعضاء أن من حقه المضي في طريقه، فهو يقوم بذلك»، ويقصد الغزو العسكري التركي الأخير لسوريا. ويؤكد هذا قوله في سياق هذه التصريحات «التزمنا بمحاربة داعش، والمشكلة أن القرار الأميركي والهجوم التركي لهما النتيجة نفسها: التضحية بشركائنا على الأرض الذين حاربوا داعش». وبنى على ذلك مطالبته بضرورة توضيح الغايات الاستراتيجية للحلف، ودعا مجدداً إلى تعزيز القوة الدفاعية لأوروبا لكي يكون للقارة استقلالها الاستراتيجي وعلى صعيد القدرات في المجال العسكري، كما دعا لإعادة فتح حوار استراتيجي مع روسيا بعيداً عن أي سذاجة سياسية، مع إدراكه صعوبة هذا الحوار، وبرر دعوته هذه بأن بوتين لا ينوي أن يصبح تابعاً للصين التي رأى ماكرون أن صعودها يهمش أوروبا بشكل واضح ويهدد بنظام ثنائي القطبية، فكأنه يدعو لنظام ثلاثي القطبية تلعب فيه أوروبا مع روسيا دور القطب الثالث مع الولايات المتحدة والصين، ويبدو أنه استبق الانتقادات التي ستوجه إلى دعوته للحوار مع روسيا، وحذّر من أنه ما لم تنتبه أوروبا لما حذّر منه فستكون مهددة بالاختفاء من الخارطة الجيوسياسية أو على الأقل ستفقد السيادة على مصيرها.
ليس في تصريحات ماكرون أي جديد من المنظور الاستراتيجي، وإنما الجديد في التفاصيل فحسب، فمنذ نهاية الحرب الثانية ونشوب الحرب الباردة والجدل لا ينقطع حول موقع أوروبا في قيادية النظام العالمي، وما إذا كانت سوف تبقى استراتيجياً ودفاعياً في كنف القيادة الأميركية اتساقاً مع مجريات الحرب ونتائجها وتأسيس «الناتو» بقيادة أميركية، أم أنه سوف يكون لها خيارها الاستراتيجي الدفاعي المستقل امتداداً لدورها السابق في النظام العالمي الذي قادته في مرحلة تاريخية كاملة، وقد فشلت المحاولات الأولى لإرفاق خطوات الوحدة الاقتصادية الأوروبية خلال خمسينيات القرن الماضي بخطوات عسكرية مماثلة، وكان سبب الفشل هو الانقسام الأوروبي بين الخيار الأميركي الأطلسي الذي تنحاز له دولة بوزن بريطانيا والخيار الأوروبي المستقل الذي تقوده فرنسا، وخرج هذا الانقسام إلى أرض الواقع مع القيادة الديجولية لفرنسا اعتباراً من عام 1958، ففي سبتمبر من ذلك العام أرسل ديجول للرئيس الأميركي أيزنهاور ورئيس الوزراء البريطاني ماكميلان مذكرة تدعو إلى قيادة ثلاثية للحلف، وإزاء رفضهما شرع في بناء قوة عسكرية مستقلة، وفي عام 1959 رفض دمج دفاعات فرنسا الجوية في منظومة الحلف وسَحَب الأسطول الفرنسي في المتوسط من قيادة «الناتو» ومنع الولايات المتحدة من وضع أسلحتها النووية وقاذفاتها في فرنسا وحاول في عام 1960 مراجعة معاهدة الحلف، غير أنه لم يلق الدعم الكافي من أعضائه. وفي مارس 1966 أعلنت فرنسا سحب موظفيها من القيادة العسكرية الموحدة للحلف وإنهاء تبعية قواتها لقيادة «الناتو»، وطلبت نقل مقره خارج فرنسا، وظل هذا الوضع قائماً حتى عام 2009 حين أعلن الرئيس ساركوزى رسمياً عودة فرنسا إلى قيادة الحلف.
وكما أن ديجول لم يجد من يماشيه في سياسته الاستقلالية تجاه «الناتو» قبل أكثر من نصف قرن، فإنه لا يبدو أن رؤية ماكرون سوف تحظى بدعم أوروبي يُعْتَد به، بل المفاجأة أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل اعتبرت تصريحاته غير مناسبة وغير ضرورية، وأنه لو كانت لدينا مشاكل (ربما تقصد الحلف) فعلينا أن نتعافى منها. ومعروف أن ألمانيا شريك رئيسي لفرنسا في سياستها الاستقلالية تجاه الولايات المتحدة. ويكشف هذا التباين عن الصعوبات التي ستواجه وضع رؤية ماكرون موضع التنفيذ، وهو أمر يحتاج نقاشاً آخر.