يبدو أن عدد الدول التي تواجه اضطرابات داخلية شديدة قد زاد خلال العام الجاري. فقد شهدت كل من إسبانيا والعراق ولبنان وزيمبابوي وجنوب أفريقيا وإندونيسيا وفنزويلا وتشيلي.. مظاهرات حاشدة قام بها الآلاف من مواطني هذه الدول ضد سلطات بلادهم. وقد صاحبت هذه المظاهرات الاحتجاجية في تلك الدول أعمال عنف متفاوتة الخطورة، مع احتمالات قليلة للتوصل إلى حل من شأنه معالجة الأسباب الأساسية الكامنة وراء حالات الغضب التي فجرت الاحتجاجات الشعبية تلك وأضرمت نيرانها في الشوارع والساحات، وهي أسباب تتضمن اتهامات بالفساد الرسمي، وبالمحسوبية في العمل الحكومي، وبالترهيب من قبل موظفي إنفاذ القانون.
وفي حين أن كل حالة من تلك الحالات المذكورة أعلاه لها ظروف وشروط نشأتها الخاصة بها، إلا أن الأحداث في لبنان والعراق لها طابع خاص متقارب ومتشابه إلى حد كبير في أسبابه السياسية والاجتماعية، لاسيما على ضوء الأزمات المستمرة في عدد من أنحاء منطقة الشرق الأوسط، والتي يمكن أن تتحول في كثير من الحالات إلى غليان يفجر المزيد من أعمال العنف، بما في ذلك احتمالية اندلاع حرب شاملة بين أطراف الأزمة في البلاد المأزومة بالاحتجاج والاضطراب.
وقد أدت الاضطراب في لبنان إلى استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري، والذي تقرر أن يظل مؤقتاً في منصبه كرئيس لحكومة تصريف الأعمال، حتى يتم العثور على مَن يحل محله ليشكل حكومة جديدة تقود لبنان وتخرجه من أزمته الطاحنة.
وتعبيراً عن حجم الغضب الذي تشهده شوارع كل من بيروت وطرابلس على وجه الخصوص، خرج آلاف المتظاهرين من الشباب غير الطائفيين الذين يشعرون بالانزعاج جراء فساد النخبة السياسية وقادتها من زعماء البلاد. وقد أبدى هؤلاء الشباب إصراراً قوياً على النقد والاحتجاج، وبشكل خاص في انتقادهم لـ«حزب الله» اللبناني وغيره من الأحزاب والمليشيات الطائفية ذات الأجندة الخارجية الإقليمية. وعلى ما يبدو، فإن المتظاهرين الشباب لم يعودوا متأثرين بالسردية التاريخية التي تبنتها هذه الأحزاب والمليشيات وداعميها الخارجيين، والتي طالما زعمت أنه يتعين على لبنان دعم «حزب الله» بوصفه مدافعاً «قوياً» وحامياً «أميناً» للبنان ضد وقوع مزيد من العدوان الإسرائيلي!
ويطالب المتظاهرون اللبنانيون بوضع حد للفساد المستشري في دواليب الحكم ومؤسسات الدولة اللبنانية، ويعتقدون أن «حزب الله» ضالع في الفساد المستشري، ومتورط في سياسات خارجية لا تخدم مصالح لبنان. وقد تعرض هؤلاء المتظاهرون للهجوم من جانب مؤيدي الحزب داخل جيوبه في بلدات «صور» و«النبطية».
أما الوضع في العراق فربما يكون أسوأ من ذلك بكثير بالنسبة لأحزابه ومليشياته ذات الارتباط الخارجي هي أيضاً، حيث شهدت الاحتجاجات الأخيرة مقتل أكثر من 250 شخصاً، مع نزول مئات الآلاف إلى الشوارع للمطالبة بتغيير كامل في السياسات وأساليب الحكم ووضع حد للتدخل الخارجي في الشؤون العراقية. وهاجم المتظاهرون العراقيون مقار في كربلاء بقنابل المولوتوف وأغلقوا الموانئ والمدارس والعديد من المكاتب الحكومية هناك.
وصرح الرئيس العراقي «برهم صالح» بأن رئيس الوزراء عادل عبد المهدي قد عرض تقديم استقالته على الكتل السياسية شريطة تقديم بديل له، مع الالتزام بالسياقات الدستورية والقانونية، وبما يمنع حدوث فراغ دستوري. وتعهد صالح بدعم الإصلاحات الرئيسية للنظام السياسي وإجراء انتخابات مبكرة حال إكمال قانون جديد للانتخابات يجري العمل عليه الآن في رئاسة الجمهورية. لكن من غير المرجح أن تؤدي مثل هذه التصريحات والوعود إلى تهدئة الحالة العراقية غير العادية من الغضب الذي يعبّر عنه المتظاهرون في الشارع، والذين ينظرون إلى النظام السياسي برمته باعتباره نظاماً فاسداً، حيث يستغل القائمون عليه ثروات البلاد من النفط ويضعون عائداتها في جيوبهم في الوقت الذي تزداد فيه معدلات البطالة والفقر في البلاد. وفي ذات الوقت، قامت المليشيات الطائفية العراقية بالهجوم على المتظاهرين. وفي الأول من شهر نوفمبر الجاري، أصدرت مرجعية السيستاني بياناً مفاده أنه «يجب ألا يتدخل طرف دولي أو إقليمي» في الأحداث الداخلية في العراق.
وأمام الضغوط الداخلية متمثلة في احتجاجات تجتاح الشارع في كل من لبنان والعراق، فإن نخبة الحكم في البلدين باتت عرضة لضعف متزايد ولمزيد من الانشقاقات في صفوفها، في ظل وضع اقتصادي لا يسمح بالاستجابة الفورية لمطالب المحتجين، لاسيما ذات الطابع المالي والاجتماعي والخدمي منها، الأمر الذي سيستدعي ويتطلب اتخاذ قرارات في منتهى الصعوبة بالنسبة للأحزاب والمليشيات الطائفية الحاكمة أو ذات النفوذ القوي على الأجهزة الرسمية، مما سيؤدي بلا شك إلى التسبب في غضب قطاعات داخل الشارع، ومن المرجح أن يخلق جو كهذا مزيداً من الفوضى الإقليمية في المنطقة.