تأثرت أوروبا بالثقافة العربية وبالتراث الإسلامي، حيث انتقلت هذه الثقافة إلى العالم الغربي، عبر بلاد الأندلس وجزيرة صقلية (جنوب إيطاليا)، وأيضاً عبر الحروب الصلبية التي استهدفت بلاد المشرق، ولعب المستعربون دوراً مهماً في نقل الحضارة الإسلامية إلى العالم الغربي، والمستعربون هم فئة من المسيحيين واليهود من أطياف الشعب الأندلسي، تشبهوا بطباع المسلمين من حيث اللغة والعادات والأخلاق مع الاحتفاظ بديانتهم، واعتمد خلفاء المسلمين في الأندلس على عناصر كثيرة من اليهود والمسيحيين في تمثيل الدولة وفي عملية الترجمة.
وقام المستعربون، بترجمة كتب العلماء المسلمين من اللغة العربية إلى العبرية واللاتينية، ومنها انتقلت مختلف العلوم والتراث الإسلامي إلى أنحاء أوروبا، وساهم الكثير من اليهود في ترجمة كتب عربية إلى اللغة العبرية، أمثال «يعقوب بن ماري» ترجم كتب ابن رشد، وموسى بن طبون ترجم 30 كتاباً، ومن بينها كتاب «القانون وأرجوزة في الحميات» لابن سينا، و«الترياق» لأبوبكر الرازي، وقام «يهوذا بن سليمان» بترجمة كتاب «مقامات الحريري»، وغيرهم الكثر من رواد حركة الترجمة أمثال، إبراهيم بن عزرا، وابراهام بريحا هانسي...إلخ.
ولم يتوقف دورهم عند الترجمة، بل لحنكتهم وإتقانهم لعدة لغات، أُختير عدد من قبل المسلمين لتمثيل الدولة في الخارج، فعلى سبيل المثال عيَّن عبد الرحمن الثالث يهودياً، وهو «حسداي بن إسحاق»، مفاوضاً نيابة عن الحاكم، واختير الأسقف رسيموند من قبل الخليفة عبد الرحمن الناصر، ليكون مترجماً وسفيراً باسمه لإمبراطور ألمانيا.
أما في جزيرة صقلية، فعندما استولى الرومان عليها من المسلمين، انبهروا بالحضارة الإسلامية، ولذلك اعتمدوا على عناصر عربية مسلمة في تمثيل صقلية، ففي عهد الأمير «روجر الثاني» اختار لمنصب مهم في الدولة المسمى بالأدميرال (قائد الأسطول، أمير البحر) قائداً عربياً يدعى «عبد الرحمن النصراني»، وعُيّن بوظيفة كبير القضاة، واختير الأدميرال الثاني شخصاً عربياً يدعى «جورج الأنطاكي»، وكان الملك «روجر الثاني» شغوفاً بالعلم والمعرفة، وقدّر علماء المسلمين وأكرمهم، وأسس مجلساً لهم للمناقشة والاستفادة من علومهم، كما قرّبهم منه، وقدّم لهم الحماية، وأشهر ما قيل عنه إنه «أكرم المسلمين، وقرّبهم، ومنع عنهم الفرنجة فأحبوه»، ومن بين العلماء الذين استقطبهم الملك هو محمد الإدريسي، الذي كان شاعراً وأديباً تلقى علومه في قرطبة، ودرس علم النبات والطب والفلك والفلسفة والجغرافيا، وكلفه الملك بجمع معلومات تصف البلدان وأقاليمها وطبيعتها الجغرافية، علاوة على نشاطها الاقتصادي وأهم صناعتها، واستغرق تأليف الإدريسي لكتابه المعرف باسم «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» 18 عاماً، والمعروف عند الغرب باسم «كتاب روجر»، وأرفق فيه خريطة العالم، بالإضافة إلى خريطة العالم التي نحتها على فضة كروية وأهدها للملك، ويعد هذا الكتاب أعظم موسوعة جغرافية في التاريخ، التي وصف بدقة متناهية جغرافية بلدان القارة الأوروبية والآسيوية والأفريقية، وأصبح مرجعاً رئيسياً في أوروبا، وقد ساعد الأوروبيين للوصول إلى دول المشرق أثناء حركة الكشوفات الجغرافية، وفي عهد «روجر الثاني» نشطت حركة لترجمة كتبِ علماء المسلمين، ففي عام 1224 تم تأسيس جامعة نابولي، وجلب الملك إلى قصره علماء من العقائد السماوية الثلاث، ليتكفلوا بترجمة المؤلفات العربية إلى اللاتينية، ولتُعتمد كمناهج في الجامعات.
كما كان للحروب الصليبية دور مباشر في نقل الحضارة الإسلامية إلى أوروبا، حيث مكنت الغرب بالاحتكاك المباشر بالعالم الإسلامي، فأنشؤوا إمارات مستقلة في بلاد الشام، وتمكن عدد من الأوروبيين من تعلم اللغة العربية، وترجمة الكثير من المؤلفات، فقد ترجم أيتيين الأنطاكي، كتاب «الكامل في الصناعة» لعلي بن عباس الأهوازي، وترجم فيليب الطرابلسي كتاب «السياسة في تدبير الرئاسة» لأرسطو، وساهمت تلك الحروب في الاحتكاك المباشر بالحضارة العربية الإسلامية، بكل ما تزخر بفنونها وعلومها وعماراتها، وقد ساهمت حركة الترجمة في صقلية وبلاد الأندلس والحروب الصلبية في يقظة العالم الغربي، ودخول مرحلة جديدة، عرفت بـ«النهضة الأوروبية».
*أستاذ مساعد بأكاديمية الإمارات الدبلوماسية.