من الواضح أن الأحداث الجارية في عدة بلدان عربية (العراق ولبنان والجزائر والسودان) تندرج في سياق نظري وإشكالي جديد يتعلق بطبيعة النظام السياسي وأسس شرعيته بعد إخفاق ما يمكن أن نسميه بآليات التكيف والملاءمة مع نموذج الدولة الوطنية الحديثة.
الإشكال المطروح يتعلق بموضوع الحكومية gouvernementalit وهي العبارة التي بلورها ميشال فوكو في أعماله الأخيرة، لكنها أخذت اليوم منعرجاً هاماً في الفكر الفلسفي والاجتماعي. وتعني هذه العبارة نمط التحكم في السكان في علاقته المعقدة بالوعي الفردي وعلاقة الأفراد في ما بينهم وبالمجموع الكلي المشترك. أهمية هذه المقولة هي الخروج من المفهوم القانوني المؤسسي للدولة الذي يعتبر عادة من البديهيات، أي الدولة الفيبرية الكلية القائمة على احتكار العنف الشرعي وعلى الشرعية القانونية البيروقراطية.
إن هذا النموذج القانوني المؤسسي هو الذي طمس الإشكالات الحقيقية التي يطرحها نموذج البناء السياسي المنظم في المجتمعات العربية بدل اعتبار خيار الدولة بديهياً وأفقاً لا محيد عنه. أي بعبارة أخرى، لم يطرح الفكر العربي مشكلة السلطة المكونة le pouvoir constituant الذي هو الأفق الغائب في الخطاب القانوني السياسي، رغم أن هذا الإشكال هو المدخل الحقيقي للحداثة السياسية.
لا يعني الأمر هنا أن الفكر الاجتماعي العربي لم يتعرض لعوائق تشكل الدولة المركزية في البلاد العربية من منظور تحليل البنيات العصبية والقرابية، وذهب البعض إلى الحديث عن الدولة الأبوية الجديدة أو النيوباتريمونالية أو السلطانية، بالعودة دوماً إلى تصنيفات فيبر الشهيرة.. إلا أن الغائب هنا هو الإشكالات الفلسفية العميقة حول فكرة المجموعة السياسية المنظمةle commun أي ما طرحته الفلسفة الحديثة من هوبز وسبينوزا إلى روسو وكانط حول نمط الانتقال من الجمهور المشتت إلى الدولة السيادية التي تتغذى من المتخيل الديني اللاهوتي من حيث عقيدة الطاعة ورمزية القداسة التحشيدية.
لقد وجد الفكر العربي نفسه في مأزق كبير عندما لاحظ أن عملية التغيير الراديكالي التي حدثت في بعض البلدان العربية لم تفض إلى ما حدث في ساحات أخرى (مثل أوروبا الجنوبية والشرقية) من انتقال سياسي سلس نحو التعددية الديمقراطية والنظام القانوني المؤسسي، بل إن الدولة في بعض هذه البلدان، ومن حيث هي بناء سياسي منظم، انهارت كلياً ولم تنجح مسارات الهندسة السياسية التي بلورتها المؤسسات الدولية في إطفاء هذه الأزمات، لأن موضوع الحكومية لم يطرح الطرح الصحيح، في مستوين محوريين: نمط الوعي السياسي المدني في علاقته بالهويات الأخلاقية الجوهرية للفرد (الدين والأخلاق)، وطبيعة النظام القانوني المؤسسي في علاقته بالتركيبة الاجتماعية التي لا يمكن ضبطها بمفهوم المواطنة الفردية المستقلة الذي هو الأساس في الديمقراطيات الليبرالية التقليدية.
المستوى الأول هو ما حاولت نظريات العقد الاجتماعي ضبطه في السياق الأوروبي بافتراض حالة توافقية أصلية تؤسس لرابطة مدنية قانونية في استقلال عن المعتقدات الدينية والمعيارية، بما يعني الفصل بين الأخلاق في دائرتها الذاتية و«الاتيقا» التي هي مجال القيم الجماعية، والفصل بين الدين في منظوره العقدي التعبدي وما أطلق عليه روسو «الديانة العمومية» التي هي مجال المقدس السياسي.
ومع أن مختلف المدونات الدستورية العربية تستند إلى التصور التعاقدي للشرعية السياسية، إلا أن الفكرة التعاقدية لم تؤسس لثقافة سياسية حقيقية في المجتمعات العربية، بحيث أن مقولات الأمة والسيادة والشعب ظلت من أدوات السلطة السياسية دون أن تتحول إلى عناصر مكونة للوعي السياسي ذاته.
وفي المستوى الثاني، يتعين التنبيه إلى أن مفهوم المواطنة في السياق الأوروبي تبلور من خلال مسار تشكل الدولة الإقليمية المنظمة للتعايش السلمي من خلال مؤسسات إجرائية تضبط أفقياً العلاقات بين الأفراد من حيث هم عناصر مستقلة منتمية بصفة متساوية للكيان الاجتماعي المشترك. وعلى الرغم من اختلاف الأنظمة السياسية الحديثة، إلا أنها تتفق في التصور القانوني للمواطنة الذي يعني أمرين أساسيين هما: الهوية الفردية للمواطن وتمثيل الدولة للمجتمع في كليته بما يعني تمايز الدولة والسلطة السياسية الحاكمة. وفي السياق العربي ظل مفهوم المواطنة هشاً وغائماً وملتبساً مع الهويات العضوية من هياكل عصبية وطائفية بما يفسر الانفصام المتجذر بين الدائرة السياسية القانونية للمواطنة ودوائر الانتماء الأهلي الراسخة.
ما كشفته الأحداث العربية الراهنة هو ضرورة العمل النظري والفكري المعمق حول الإشكالات الجوهرية للحكومية السياسية، أي نمط تكوين السلطة المنظمة الجماعية الملائمة لواقع المجتمعات العربية. إن هذا التوجه يفرض علينا في إطار احترام ثوابت الحداثة السياسية (الحرية والمساواة) أن نفكر في مقاييس جديدة للمواطنة والسيادة والتمثيل والشرعية، وهي الخطوة التي لا يزال الفكر العربي يلتمس الطريق لها.

*أكاديمي موريتاني