خلال فعاليات مؤتمر عن صحة الرئتين، عقد يوم الثلاثاء الماضي في مدينة «حيدر آباد» في وسط شبه القارة الهندية، أعلن فريق مكون من علماء من مختلف دول وقارات العالم، عن تمكنه من تحقيق اختراق، وصف بالثوري، على صعيد تحقيق الوقاية من مرض السل، وذلك من خلال تطوير تطعيم ضد الميكروب المسبب له. ويتكون هذا التطعيم من بروتينات موجودة في البكتيريا، يتعرف عليها الجسم وينتج أجساماً مضادةً لها، بحيث إذا ما حاولت البكتيريا لاحقاً غزو خلايا الجسم، يقوم جهاز المناعة حينها باستخدام هذه الأجسام المضادة، وإنتاج المزيد منها لمهاجمة البكتيريا وقتلها، وتحقيق الوقاية. ومؤخراً اجتاز هذا التطعيم بالفعل مرحلة هامة من التجارب السريرية على 3500 شخص، يقطنون مناطق موبوءة في جنوب أفريقيا وكينيا وزامبيا. وإن كان سيستغرق وصول التطعيم إلى الاستخدام العام عدة سنوات، وهي الفترة اللازمة لاجتياز باقي مراحل التجارب السريرية.
ويعتبر ميكروب السل من الميكروبات التي لازمت الجنس البشري منذ فجر التاريخ، حيث وجدت آثار المرض في بقايا عظام إنسان الكهف، وفي العمود الفقري لمومياوات الفراعنة. وظل هذا المرض يحصد أرواحاً بشرية بالملايين على مر العقود والقرون وآلاف السنين، وقد بلغ ذروته خلال القرن الثامن عشر في أوروبا، حينما كان السل الذي عرف بالطاعون الأبيض، مسؤولاً عن 25 في المئة من جميع الوفيات بين سكان القارة الأوروبية.
ولا يزال ميكروب السل يحتل حتى الآن رأس قائمة أسباب الوفيات من الأمراض المعدية، حيث يلقى 4500 مريض حتفهم يومياً جراء الإصابة بهذا الميكروب، كما يقع 30 ألف مريض يومياً فريسة للعدوى بالميكروب المسبب لهذا المرض. لكن هذا الوضع، على فداحته، لا يزال أفضل بكثير مما كان يمكن أن يكون عليه الحال لولا الجهود الدولية الرامية لمكافحة مرض السل، والتي يُعتقد أنها أنقذت حياة 54 مليون شخص منذ عام 2000 فقط، وذلك من خلال نجاحها في خفض الوفيات بين المصابين بنسبة 42 في المئة. وتُقدر منظمة الصحة العالمية حالياً أن ميكروب السل يقتل حوالي 1.5 مليون شخص سنوياً، فوفقاً لإحصائيات عام 2018 يصاب 10 ملايين شخص بالميكروب سنوياً، من بينهم مليون طفل، يتوفى 250 ألفاً منهم، وهو السيناريو الذي أصبح يتكرر سنوياً.
وتتحمل ثماني دول فقط، ثلثي العبء البشري لمرض السل، وهي بالترتيب كالتالي: الهند بنسبة 27 في المئة من جميع حالات الإصابة السنوية، ثم الصين بنسبة 9 في المئة، ثم إندونيسيا بنسبة 8 في المئة، تليها الفلبين بنسبة 6 في المئة، فباكستان بنسبة 6 في المئة أيضاً، ثم نيجيريا بنسبة 4 في المئة، وبنجلاديش بنسبة 4 في المئة أيضاً، ومن بعدها جنوب أفريقيا بنسبة 3 في المئة. وبما أن 27 في المئة، أي واحدة من كل أربعة حالات إصابة تقع في الهند، يعتبر هذا البلد الآسيوي نقطة المركز الجغرافية لانتشار هذا المرض العالمي بكل المقاييس.
ومما يزيد الطين بلة، حقيقة أن مرضى السل في بعض مناطق العالم يعاني ربعهم من نوع من الميكروب لا يمكن علاجه بالعقاقير القياسية أو الاعتيادية. فعلى سبيل المثال، كشفت فحوص مخبرية، أجريت نهاية العقد الماضي، أن 28 في المئة من الحالات التي تم تشخيصها في منطقة شمال شرق روسيا، هي لإصابات بنوع من ميكروب السل مقاوم لعدة عقاقير. وهذه النسبة هي الأعلى في تاريخ انتشار الإصابات بالميكروب المقاوم للعقاقير، على أساس أن أعلى نسبة مسجلة سابقاً كانت 22 في المئة في مدينة «باكو» بأذربيجان. ومن منظور عالمي، يظهر التقرير الدولي لعام 2010 حول انتشار ميكروب السل المقاوم لعدة عقاقير (MDR-TB) وفائق المقاومة (XDR-TB)، وقوع قرابة نصف مليون إصابة بهذه الأنواع الخطيرة من الميكروب، توفي ثلثهم بسبب فشل العقاقير المتاحة في علاج مرضهم.
وأمام هذا الوضع، وتحت شعار «مطلوب: قادة لعالم خالٍ من مرض السل»، تضافرت الجهود الرامية لتأسيس ودعم التزام وتعهد دوليين، بالقضاء على مرض السل، ليس فقط من قبل الطبقة السياسة المكونة من رؤساء الدول ووزراء الصحة، وإنما أيضاً من حكام الولايات والمقاطعات، وعمداء ورؤساء المدن، وقادة المجتمع، وباقي مؤسسات المجتمع المدني، والعاملين في القطاع الصحي من الأطباء والممرضين، والمنظمات الصحية غير الحكومية، بالإضافة طبعاً إلى المرضى أنفسهم، وباقي أفراد أسرهم وأصدقائهم الذين تأثروا بهذا المرض بشكل مباشر أو غير مباشر، فهؤلاء جميعاً، يمكن أن يكونوا قادة على صعيد مكافحة الطاعون الأبيض، كل في موقعه، وحسب مجال عمله.

*كاتب متخصص في الشؤون الصحية والعلمية