في عام 2012، كتبت مقالاً عن لبنان ما زال ينم عن الواقع حتى الآن، وأنهيت مقالي باقتباس واحدة من أفضل المقالات التي كتبها «جبران خليل جبران»، بعنوان «أنت لديك لبنان الخاص بك، وأنا لدي لبنان الخاص بي»، وفيما يلي جزء من مقالي الذي كتبته عام 2012، متبوعاً ببعض التعليقات حول التطورات الحالية: «مع انفجار الأوضاع في سوريا المجاورة، وتصاعد التوترات، وتهديد إسرائيل المستمر، يبدو لبنان وكأنه على شفا الصراع، لكن هذه هي قصة لبنان منذ عقود، لطالما كانت هذه البلاد الرائعة المليئة بأشخاص غير عاديين ضحية لتاريخها وقادتها ومكائد الغرباء، قد يكون هذا ماضي لبنان وحاضره، لكن إذا أنصتنا إلى الشعب اللبناني، فلا يجب أن يكون هذا هو مستقبل البلاد.
لقد كان الفرنسيون هم من أنشأوا لبنان وغطائه المهترئ، ونظام الحكم القائم على الطائفية، والمصمم لخدمة المصالح الإمبريالية لفرنسا، وخلال الثمانين عاماً الماضية، كانت النخب الطائفية اللبنانية، التي من خلال هذا الإطار المفروض، تتنافس من أجل الاستفادة من «الشركاء» الخارجيين، والحصول على دعمهم لتعزيز موقفها، وفي أحيان كثيرة، كان هؤلاء «الشركاء» الخارجيون لهم مصالح خاصة يدعمونها أو أعداد كبيرة لتوطينهم، ونتيجة لهذا، تحول لبنان مراراً وتكراراً إلى ساحة معركة، حيث تتصارع الطوائف وتنخرط في صراعات إقليمية على السلطة.
وهذا هو الحال اليوم.
قبل جيلين، كان لبنان ساحة معركة للحرب الباردة بين الشرق والغرب، وهو اليوم ساحة تشهد صراعاً بين الغرب وحلفائه، مقابل قوى إقليمية معادية وممثليها، في حين أن لبنان الهش معلق في الميزان، وأمنه واستقراره وازدهاره في خطر.
قد يرفض البعض هذا، ويقولون: «هذا هو لبنان»، أو يشير إلى قادة الحرب والعصابات المسلحة في البلاد، ويقولون: «لقد جلبوا هذا على أنفسهم»، بيد أن هذه الحالة المتقلبة المتكررة لا يجب أن تكون مصير لبنان، إذا أنصتنا إلى شعب لبنان، من الممكن أن نتخيل دولة مختلفة تماماً، قائمة على هوية مشتركة وإحساس بالهدف، وإذا كنت تعلمت شيئاً من استطلاعات الرأي، فهو أن الناس يعرفون دائماً أكثر من السياسيين الذين يقودونهم، وفي هذا الصدد، فإن الشعب اللبناني لديه الكثير ليقوله، ويستحق الإنصات له.
من المؤكد، أن هناك قضايا تقسم اللبنانيين، على سبيل المثال، وجد آخر استطلاعين للرأي، أن اللبنانيين لديهم آراء متناقضة فيما يتعلق بسوريا...وفي كل الحالات، تعكس هذه المواقف المختلفة للبنانيين مواقف قادتهم، وأيضاً تعطينا لمحة عن طريقة تفكير اللبنانيين، ومع ذلك، هناك إجماع محلي قوي في معظم القضايا، وسيكون من الحكمة أن نهتم نحن، وقادة لبنان، ونركز على القضايا والسياسات التي يمكنها أن توحد معظم اللبنانيين، وليست تلك التي تقسمهم.
ومن بين المواطن التي يجد فيها اللبنانيون أرضية مشتركة، الوضع المؤسف للبلاد، والأولويات السياسية التي يجب معالجتها، وأهمية الهوية الوطنية، والوحدة، والإصلاحات السياسية الأساسية التي يجب سنها.
ويرى اللبنانيون، أن البلاد أسوأ حالاً مما كانت عليه قبل خمس سنوات، وأنها لا تسير حالياً على الطريق الصحيح، ويتفق اللبنانيون على أن أهم اهتماماتهم السياسية هو «توسيع فرص العمل»، يليه «القضاء على الفساد والمحسوبية»، ثم «الإصلاح السياسي» و«حماية الحريات الشخصية والحقوق المدنية»، وهم أيضاً يفضلون استبدال النظام القائم على الطائفة بهيكل سياسي، ويتفقون أيضاً على أن الوحدة الوطنية هي أمر لا بد منه للبلاد.
وفي مقاله الرائع، الذي أشرت إليه في مقدمة مقالي، يقارن جبران بين النخب المتشاحنة المتمركزة حول الذات، وعامة الشعب الذي يعد قلب لبنان وروحه، لقد كان جبران محقاً، وملاحظاته مستمرة حتى يومنا هذا، ويتعين على قادة لبنان وهؤلاء الذين يهتمون بمستقبل البلد أن ينصتوا إلى شعب لبنان، ويساعدوا على جذب البلاد بعيداً عن حافة الهاوية، قبل فوات الأوان».
هذا ما كتبته قبل سبع سنوات.
خلال الأسبوعين الماضيين، كان لبنان النخب ولبنان عامة الشعب في مواجهة دراماتيكية، حيث دعت مظاهرات حاشدة إلى إنهاء النظام القديم، لم يعد اللبنانيون يريدون سلالات إقطاعية تحكم البلاد، ولا يريدون كذلك أن يكونوا رهينة لميليشيا مسلحة، تستخدم التهديدات لحماية وضعها في هذا البلد ذي النظام المختل، وكان شعارهم البسيط والبليغ «كلهم، يعني كلهم».
كانت الاحتجاجات جماهيرية وخلاقة، وتضم كافة الطوائف، حيث حشدت مليون ونصف متظاهر، أي أكثر من ثلث سكان لبنان.
فلماذا كانوا يتظاهرون؟ يظهر آخر استطلاع للرأي، أن الرأي العام اللبناني قد سئم وتوحد، مع إجماع أكبر مما كان عليه قبل سبع سنوات، وأصبح اللبنانيون اليوم ساخطين بشأن حالة الاقتصاد، وأكثر تشاؤماً بشأن مستقبل البلد، ويحملون عدوانية عميقة تجاه إسرائيل، حيث ما زالوا يذكرون احتلالها الطويل للجنوب، وقصفها الوحشي المتكرر، وهم يشعرون بالقلق من عدم قدرة بلادهم على مواجهة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، الناجمة عن وجود أكثر من مليون لاجئ سوري.
ورداً على الاحتجاجات المستمرة، استقالت الحكومة أخيراً، على الرغم من تهديدات حزب الله، بيد أنه لا تزال هناك تحديات كبيرة، فاستبدال الحكومة الطائفية بحكومة أخرى لن يحقق التغيير، ولن يحققه إجراء انتخابات جديدة، قائمة على نفس النظام الطائفي المجزأ.
إن لبنان بحاجة إلى تحول ديمقراطي حقيقي، ويجب البدء بتنفيذ مادة في دستور 1926 القديم، والتي تدعو إلى إنشاء مجلس نواب غير طائفي، له صوت واحد، ويتمتع بسلطات محدودة، وقد يمنح هذا البلاد حكومة منتخبة تضع لبنان وشعبه في المقدمة.
*رئيس المعهد العربي الأميركي بواشنطن