لا يوجد ضامن لأي شعب على وجه الأرض أكثر من تمسكه بهويته، باستقلاله، بوطنه.. فالوطن بكل مكوناته المعنوية والمادية والديموغرافية هو الكرامة والأمان، ولا هوية أخرى تحل محل الهوية الوطنية، فبعد تجارب مريرة مر بها الشعب العراقي، بات العراقيون على يقين بأن الهوية الدينية والمذهبية سَرقت منهم وطناً وسلخت منهم هويتهم الحقيقية!
لقد خرج الشعبان العراقي واللبناني في شوارع بغداد وبيروت لهدف واحد وبدافع واحد أيضاً، ألا وهو الثورة من أجل الكرامة والشرف، الثورة التي اختزلها الشعب العراقي في الشعارات المرفوعة علناً لاحتجاجه الحالي، وكذلك فعل الشعب اللبناني الذي ردد شعاره الخاص به: «كلن يعني كلن ونصرالله واحد منن»، تأكيداً على ضرورة إبعاد «حزب الله» من المنظومة السياسية اللبنانية، والتي أصابها بسببه ما أصابها من فساد.
والراصد لفورة الشعبين في شوارع العاصمتين، سوف يلاحظ أنهما يركزان على فساد الحكومات في ظل ولاءات خارجية لا تأبه لوطن ولا لشعب ولا لاقتصاد، بل تتحرك بواجهات تتمثل في تطبيق أجندة مشروع إقليمي ابتلعها ابتلاعاً!
وقد ترتب على ذلك الارتباط، تقليص مَواطن القوة في البلد، وتكوين حكومة ضعيفة فاسدة، يتفشى على إثرها الفساد والبطالة والفقر ودور المافيات وهدر المقدرات وتجارة المخدرات.. وهو ما لن يتم إلا من خلال شعوب مغيبة بعاطفة دينية، وولاءات مذهبية زائفة، ووعود هلامية، وأحداث فانتازية بمحتوى ديني يخترق اللاشعور، فيخدر كل خلية في العقل لترضخ لهذا الحشو الهلامي!
في المشهد اللبناني، ترددت هتافات «كلن يعني كلن»، كما أسلفتُ، لكن الطريف في الأمر أن «كلن» تبرؤوا من الفساد وأبدوا تعاطفاً مع ثورة الشارع اللبناني، من خلال وعود اعتقدوا أنها قد تخفف حدة الفوضى المقبلة المحتملة، والتي حتماً ستطيح بهم واحداً تلو الآخر، وبإرادة الشعب، ولا شيء غير الشعب، وأقصد بـ«كلن» السياسيين الذين يحاولون تجنّب حقيقة لا بد من حدوثها، وهي حل المجلس النيابي والشروع في إجراء انتخابات مبكرة، فالكل أصبح نزيهاً (!)، والكل أصبح يبحث عن حلول لهذا الفساد (!)، والكل متمسك بكرسيه.. لكن هيهات؛ فالمؤشرات توحي باشتعال أكثر في الشارع اللبناني، وبالتالي لن تكون المخرجات أقل من جمهورية ثالثة أو استقالة الحكومة على أقل تقدير، وهو الأقرب بعد تقديم الرئيس سعد الحريري، أول أمس، استقالة حكومته.
لقد أصبح الحال في لبنان شائكاً ومتفاقماً، بعد عقود من هيمنة الميليشيات داخل الدولة اللبنانية، حتى أصبح الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصرالله، صاحب القرار، الآمر الناهي بلا مساءلة ولا استجواب على تصريحاته وتجاوزات حزبه المسلح.
قد يستطيع ثلة من الساسة المدعومين بسلاح الميليشيات أن يكسبوا هيمنة مؤقتة، سواء في العراق أو في لبنان، لكنهم بالتأكيد لم ولن يكسبوا شعوباً واعية لا تقتات على الوعود، ولا يسد جوعها صراخ نصرالله، ولا يفت في عزيمتها رصاص قناصة «الحشد الشعبي» في ميادين بغداد وكربلاء، فمنذ اليوم الأول من شهر أكتوبر الحالي حتى يومنا هذا والشعب العراقي يتظاهر دون أن تثنيه الجثث المتساقطة ولا دماء الجرحى في ميادين الكرامة.. فالعراقيون -سنة وشيعة- خرجوا من أجل الكرامة والوطن والهوية، مرددين مواويلهم الشجية «منصوره يا بغداد..»!
في الواقع، لدي تساؤل لطالما راودني منذ أن أصبح لـ«حزب الله» هذا الحضور الطغياني في المشهد السياسي اللبناني، ألا وهو: كيف للبنان، أيقونة الجمال، وكيف لشعب مثل الشعب اللبناني بعقليته المنفتحة على العالم، وبطموحه وتحضره اللافتين، أن يستسلم بهدوء، وعلى مدى عقود، لرموز التخلف والرجعية والتعنت؟ كيف للبنان النضال والحب والموسيقى والموضة والجمال والشعراء وفيروز والأَرَز والسفوح البيضاء.. أن يسمح بتسلل القبح الميليشياوي إلى قلب الجمال ليطمسه؟ وكيف للسواد أن يطغى على لوحة من الألوان فيجردها من هويتها؟

*كاتبة سعودية