يتحول التفكير المستقبلي للأعمال والموارد والتشكلات السياسية والاجتماعية في أغلبه إلى المراجعة الاستراتيجية للأفكار والمؤسسات، بمعنى ردها إلى مبررات وفلسفة وجودها، وملاحظة قدرتها على الاستمرار أو جدوى هذه الاستمرارية، وبالطبع فإنها عمليات تنطوي على آلام وأفكار وجودية، كما أنها تهز من الأعماق كل ما تعودنا عليه وألفناه، وتتناقض أيضاً مع مصالح كبرى وفاعلة (لن تظل فاعلة) تستمد وجودها وأهميتها من الواقع القائم، لكنها ولشديد الأسف تصارع لأجل البقاء المشكوك في استمراره إن لم يكن مستحيلاً.
يبدأ (بدأ) التحول في بناء المستقبل بإعادة النظر في موقع الفرد ودوره في إدارة وتنظيم الأعمال والمصالح والقيم والأفكار، ففي حين كان الفرد في مرحلة التنظيم المركزي للدول والمجتمعات يشكل مكوناً غير متميز في السياقات والمكونات الاجتماعية والمؤسسية، مثل المدارس والجامعات النقابات والشركات والمنظمات الاجتماعية والسياسية والروابط القرابية والدينية، يتلقى ويشارك من خلال عمليات مركزية، مثل منتجات المطابع والإعلام المركزي الحصري والتوجيه والإرشاد المؤسسي والتنظيمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الهرمية والتراتبية، وتجري أيضاً عمليات التنظيم والضبط والارتقاء الاجتماعي والمؤسسي من خلال هذه الأدوات المركزية، لكن اليوم في ظل الشبكية يشارك الفرد، ويتلقى بصفته فرداً مستقلاً عن انتمائه المهني أو الأسري أو المؤسسي أو الوطني والجغرافي، ويتحمل وحده مستقلاً مسؤولية أفكاره ومعتقداته، وينشئ وحده مستقلاً وجوده ومعنى وجوده.
هكذا فقد صعد رأس المال الإنساني باعتباره المورد الاقتصادي الأكثر أهمية اليوم باعتبار أن أفضل ما تقدمه الدول والأمم والمجتمعات والأسر أن تنشئ إنساناً صالحاً يتمتع بالمعرفة والمهارات والصحة اللائقة والكافية لتمكينه كفرد من تدبير أعماله واحتياجاته، وأنْ يملك الفرص الكافية للريادة والإبداع والمشاركة في عالم لم نتيقن بعد من تشكله ومآلاته، لكنا ندرك أننا نخوضه بشكل أساسي أفراداً لا تساعدنا البيئة المحيطة إلا بالقدرات والمعارف التي تزودنا بها، لكنها لم تعد المنظم الأساسي أو المركزي للاتجاهات والقيم والأفكار، وفي عبارة أخرى، فإن كل فرد يتخذ موقعاً مركزياً في الشبكة - بما هي الإطار التنظيمي الجديد للأمم بدلاً من/ أو مع التشكيلات التنظيمية والمركزية التقليدية- مساوياً لكل متواصل مع الشبكة، سواء كانت نقطة التواصل والمشاركة هذه مؤسسة كبيرة أو صغيرة، وفي أي مكان في العالم تعمل وتتواصل فيه.
وهكذا أيضاً نواجه أنماطاً جديدة من التحديات والأزمات غير المألوفة، مثل الجرائم الإرهابية والجنائية الفردية، التي يقوم بها أفراد لا تربطهم بالجماعات والمنظمات الإرهابية والجنائية صلة تنظيمية معروفة، وهو ما يسمى في الأدبيات الإعلامية والسياسية «الذئاب المنفردة»، أو بعبارة أخرى جرائم متوقع،ة ومنفذون غير متوقعين.
وبصراحة فإني لا أملك جواباً كافياً ومقنعاً لتصور مرحلة اجتماعية وأخلاقية يضمنها الأفراد بدلاً من المجتمعات والمؤسسات، لكني أعتقد أن الفرد الفاعل أو الذات الفاعلة أو الإنسان الصالح، يمثل حجر الزاوية في الإطار الاقتصادي والاجتماعي القادم، وتحضرني أسئلة «إريك فروم» في اقتراحه لعلاج المرء لذاته على النحو الذي يمنح التركيز والقدرة على تصور طريقه في الحياة أو إنشاء هذه الطريق. يقترح «فروم» في كتابه «فن الوجود» لأجل أن يجعل الإنسان لوجوده معنى أن يعلم نفسه التركيز والتأمل، ويحاول أن يجيب نفسه عن مجموعة من الأسئلة، مثل: على من اعتمد؟ ما هي مخاوفي الكبرى؟ ماذا كان مقدراً لي عندما خلقت؟ ماذا كانت أهدافي وكيف تغيرت؟ ماذا كانت العقبات في طريقي عندما اتخذت طريقاً خاطئاً؟ ما هي الجهود التي بذلتها لأصحح الخطأ وأعود إلى الطريق السليم؟ من أنا الآن؟ من سأكون إذا اتخذت دائماً القرارات الصائبة وتجنب الأخطاء المصيرية؟ من هو الشخص الذي كنت أريد أن أكونه في الماضي والحاضر والمستقبل؟ ما هي الصورة التي رسمتها لنفسي؟ ما هي الصورة التي أرغب أن يراها الآخرون عني؟ أين هي التناقضات بين الصورتين؟ ما هي التناقضات بين الصورتين وبين ما أشعر أنه الحقيقة؟ من هو الشخص الذي سأكونه إذا واصلت العيش بالطريقة ذاتها التي انتهجها الآن؟ ما هي الظروف المسؤولة عن التطور الذي تعرضت له؟ ما هي البدائل أمامي لتطور اهتمامي؟ ماذا يجب أن أفعل؟
وربما تكون الأجيال الجديدة أقدر على الإجابة والتأمل والتركيز أفضل من الأجيال السابقة، إننا في مرحلة من تاريخ الإنسانية يعلم فيها الأبناء الآباء، وكما نلجأ ببساطة إلى أبنائنا ليرشدونا في استخدام الحواسيب والهواتف النقالة أو يعلمونا على استخدام التطبيقات الكثيرة، فإننا في حاجة (ربما) أن نلجأ إلى أبنائنا لإنشاء فلسفة جدية للحياة والسياسة والاقتصاد.
*كاتب وباحث أردني