الاضطرابات وأعمال العنف المروعة في سوريا ليست إلا لافتة واحدة. والشيء نفسه يحدث في مناطق أخرى، وليس فقط في الشرق الأوسط، بل في شرق أوروبا وشرق آسيا. إننا نشهد بداية إجابة عن سؤال يحمل دلالات حيوية وهو: ماذا يحدث حين تقرر قوة عظمى أنها لم تعد تريد أن تكون كذلك؟ ما زالت الولايات المتحدة قوة العالم المتفوقة عسكرياً واقتصادياً، وإنْ وُجدت قوى أخرى لديها طموحات واقعية لتحل محلها. لكن الولايات المتحدة لن تتقلص فجأة لتصبح معادلاً جيوسياسياً لإحدى الدول النامية الفقيرة! بيد أن مكانتها كقوة عظمى، تستند إلى شيء أكثر من القوة العسكرية والاقتصادية. إنها تستقر على قيادة سياسية ودبلوماسية وعلى شبكة من التحالفات حول العالم، منها الرسمي ومنها غير الرسمي، مما يعظِّم نفوذها. والنتيجة هي أنه حتى في مناطق الصراعات التي لا تسعى الولايات المتحدة للتدخل فيها مباشرة، فإن مجرد حضورها هناك يمثل نفوذاً كبيراً. وصوتها مهم ويجري الإنصات له. وهذا ما يتغير حالياً، وسوريا أبرز أمثلته. ففي سوريا، كان الرئيس أوباما هو مَن عارض تورطاً أميركياً كبيراً في الحرب الأهلية هناك. لكنه حين اعتزم التصدي لـ«داعش»، اعتمد على صندوق أدوات القوة العظمى الأميركية. فقد جمعت الولايات المتحدة تحالفاً دولياً ضم أكثر من 70 دولة لمحاربة «داعش». وعسكرياً، شكلت واشنطن تحالفاً في ميدان المعركة ضم مقاتلين أكراداً دعمتهم بالمال والأسلحة والتدريب، كمفرزة صغيرة من قوات العمليات الخاصة.
ومع كسر شوكة «داعش» على الأرض، كان الوضع في سوريا حتى الشهر الجاري قد استقر على توازن دقيق للقوة. فقد تحرك نظام الرئيس بشار الأسد المدعوم من القوات الروسية نحو السيطرة على المزيد من مناطق البلاد. فيما واصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تصريحاته المستمرة منذ سنوات بضرورة تطهير شمال سوريا من الأكراد المدعومين أميركياً. ومن الناحية العسكرية الصرفة، لم يكن هناك إلا القليل مما يعرقل تركيا، فهناك أقل من 2000 جندي أميركي في الميدان. لكن هوية هذه القوات هو ما كان يعرقل أردوغان والأسد والقوات الروسية أيضاً.
وما أن ألمحت إدارة ترامب إلى أنها لم تعد تبالي بالبقاء حتى ظهر الجيش التركي في سوريا، وتقدمت قوات الأسد شمالاً إلى نحو ثلث أراضي البلاد التي كانت خاضعة للأكراد. صحيح أن ما هو آت غير مؤكد، لكن هناك شيء واضح، فكل الطرق الدبلوماسية حالياً تمر عبر روسيا التي توجه إليها أردوغان للتباحث مع بوتين.
لكن الأمر لا يقتصر على الشرق الأوسط الذي اتضح فيه غياب أو على الأقل خفوت صوت الولايات المتحدة. ففي آسيا، احتدمت معركة سياسية، تصاعدت إلى حرب تجارية بين اليابان وكوريا الجنوبية، وكلاهما حليف مقرب لواشنطن. والقضية منشؤها عداوة شديدة تمتد إلى فترة الحكم الاستعماري الياباني لشبه جزيرة كوريا في النصف الأول من القرن العشرين. فقد لعبت الولايات المتحدة على مدى عقود دوراً حيوياً في تخفيف حدة التوترات في مثل هذه الأزمات بين الحلفاء. لكن التراجع الأميركي جعل الأمور تتفاقم على هذا النحو. وانسحب ترامب، في بداية فترة ولايته، من اتفاقية الشراكة عبر الهادئ التي دعمتها الولايات المتحدة لتحقيق توازن أمام توسع النفوذ الصيني. لكن فيما بعد شككت إدارة ترامب في جدوى استمرار نشر قوات أميركية في كوريا الجنوبية.
وفي أوروبا، هناك مخاوف من تشكيك ترامب في أهمية الناتو والتداعيات المحتملة لذلك، لاسيما على أوكرانيا المتنازعة على منطقة القرم مع روسيا. وفي أوروبا لا يتعلق الأمر بوجود قوات أميركية على الأرض لعرقلة مزيد من التقدم الروسي في أوكرانيا أو في مناطق أخرى من شرق أوروبا.. بل المهم هو الردع الذي يمثله التزام أميركا كقوة عظمى وحضورها السياسي والدبلوماسي وصوتها.
ويبقى السؤال الأطول أمداً هو: ما احتمال عودة انخراط أميركا كقوة عظمى؟
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»