أسترجع شريط ذكرى أليمة حدثت قبل 15 عاماً يوم فقدنا المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه. الوالد والقائد وباني الدار وراعيها، في تلك الفترة وعندما رحل عن هذه الدنيا شعرت بأن الحزن يكاد أن يقصم روحي قبل ظهري، حالي في ذلك حال ملايين البشر في الإمارات سواء كانوا من أبنائها أو من المقيمين فيها، تمدد الحزن، وسكن قلوب الناس، وأبكى الفقد عيون الرجال مثلما أبكى عيون النساء والأطفال. كان الثاني من نوفمبر عام 2004 يوم فراق قاسٍ، ووداع لا لقاء بعده.
منذ ذلك التاريخ والناس لم يتوقفوا عن ذكر الشيخ زايد بفيض من الوفاء والمحبة والتقدير، وإن قال قائل إنهم مضطرون لذلك فأنا أؤكد أنه مخطئ تماماً، فمن ذا الذي يجبر الناس على الاستمرار في حبِّ رجل غادرنا إلى العالم الآخر، ومن يستطيع نزع تلك المشاعر من قلوبهم، أكاد أجزم أن ملايين العرب والأجانب بكوا بصدق رحيل الشيخ زايد، وحتى اليوم يرددون اسمه بكثير من الاحترام والمودة لأنه كان خير مثالٍ على سمو الأخلاق، صدَق مع نفسه ومع الآخرين، وأوفى بعهده تجاه بلده وأمته، وجسّد في شخصه قيم الصدق والعدل والتواضع والتسامح، إلى درجة أن أعداء العرب أكبروا فيه تلك الصفات واحترموها.
كان الشيخ زايد يعلم تماماً أن أبناء شعبه سيواصلون رحلة التقدم والبناء التي أرسى قواعدها، مسخراً الموارد والطاقات والخبرات لتحقيق الإنجازات في شتى الميادين، فقد كان يتمتع برؤية بعيدة، وإرادة فولاذية، وعزيمة كبيرة، وصبر جميل لأنه أدرك أن المهمة التي اضطلع بها كبيرة، والأمانة التي حملها عظيمة، وهي تستوجب منه أن يكون حكيماً في عرض كل المواقف التي تبناها، وفي آلية التعاطي مع الناس على اختلاف أهوائهم ومشاربهم وطرائق تفكيرهم.
قبل أن تتحقق فكرة الوحدة، أولى عنايته لكل بقعة في الإمارات، ورفقاء دربه شهود على ذلك، وبعد الإعلان عن الاتحاد واختياره رئيساً للبلاد، أخذ عهداً مع إخوانه أعضاء المجلس الأعلى أن يكون الشغل الشاغل هو بناء الدولة والإنسان الذي سيقود لاحقاً إلى بناء المستقبل. خلال العقد الأول بالتحديد من توليه الحكم – ولمن يتذكر تلك الأيام – أصبحت الإمارات ورشة عمل من مطلع الشمس وحتى مغربها في حركة البناء لا تتوقف، إلى أن صارت الإمارات بفضله نموذجاً للدولة الحديثة التي تسخر مصادرها للتنمية ولكسب احترام العالم وفي زمن قياسي، وهذا ما تؤكده العلاقات المهمة التي نشأت بين الإمارات ودول عديدة عربية وأجنبية، وكذلك الحوارات الصحافية التي أجرتها معه الصحف ووسائل الإعلام العالمية.
كل ذلك وسواه أسهم في أن يتبوأ بلدنا موقعاً مهماً في المنطقة العربية عموماً، لكنه بالتأكيد أسهم في بناء شخصية الفرد الإماراتي التي قامت على الأخلاق أولاً، وعلى الوفاء للبلد، وعلى احترام القائد من موقع المحبة الحقيقية له، لا من موقع الخشية والخوف منه، وأنا هنا لا أكتب جديداً بحق الشيخ زايد، إنما أؤكد على ما كان قد سبق ذكره، وما سيذكره لاحقاً كل من عرفوا الشيخ زايد، سواء ممن عملوا إلى جانبه في مرحلة حاسمة ومهمة من تاريخ الإمارات، أو ممن عملوا تحت إدارته ورئاسته يوم كان حاكماً لأبوظبي ثم رئيساً للإمارات.
ولمن يمكن أن يقول (إن الأمر لا يتعدى الرأي العاطفي)، أردّ وبيقين تام إن الأرشيف العربي والأجنبي يعزز ما أقول، فالشيخ زايد -قولاً وفعلاً -كان واحداً من الأخيار الذين قلّما نلتقي أمثالهم في حياتنا ولهذا لا يزال حاضراً في وجدان ملايين الناس من الإماراتيين وغيرهم، ممن عرفوا ولمسوا كرمه وصدقه ومحبته، وهو الذي كان مثالاً حقيقياً للخير والتعايش والتسامح، من دون أي ادعاء أو تفاخر، فعلى ذلك نشأ واستمر وأكد.
ولا شك أن المآثر والقصص والأعمال شاهدةٌ على ما أقول، وستبقى مدوّنة في سجل الحياة والتاريخ، ثم إنّي وسواي -ممن نكتب عن شخصية الشيخ زايد أو نذكرها في سياق أحاديثنا -نفعل ذلك من باب الاعتراف بجمائله التي لا ولن نستطيع ردها، وأيضاً من باب الإضاءة على دوره، وهو الذي حكم في فترة صعبة جداً من مراحل التاريخ العربي الحديث.
صحيح أن الشيخ زايد رحل عن دنيانا، لكني أرى أن أهل الإمارات يجددون عهوداً كثيرة له، عهد الوفاء لقيم الإنسانية، والتي نبذل الجهد للتحلّي بها، وعهد الانتماء لبلدنا الذي يتطلب منّا صدق النوايا في كل شيء، ثم عهد الإخلاص في العطاء لإماراتنا التي وضع قادتها نصب أعينهم مسألة في غاية الأهمية، وهي المستقبل الذي يريدونه مختلفاً على صعيد الجوهر، وتنويرياً على صعيد التأثير.
ويبقى الشيخ زايد في قلوبنا حياً، وجيلاً بعد جيل، نستعيد إرثه.. نقرأ تاريخه..نكتب عنه، نتمسك بقيمه، وبالخير الذي غرسه فينا، وخطّ دربه لنا.