ظلت تركيا تراقب على مدار سنوات، قوى من مناطق بعيدة، من الولايات المتحدة إلى روسيا وغيرهما، تفرض إرادتها على الصراع الدموي السوري الدائر على حدودها الجنوبية. وعلى مدار سنوات طالبت تركيا الولايات المتحدة بوقف دعمها لفصيل سوري كردي تزعم أن له علاقات بجماعة «انفصالية» محظورة لديها. وعلى مدار سنوات أيضاً، وتركيا غاضبة من «واشنطن المعادية» التي تعتبر حليفاً والتي ينظر سياسيوها إلى أنقرة باعتبارها خصماً. لكن كل هذا تغير فجأة، ويعود الفضل فيه إلى حد كبير للرئيس دونالد ترامب.
فقبل أسبوعين تراجع ترامب مفسحاً الطريق أمام غزو تركيا لشمال شرق سوريا، متخلياً عن «قوات سوريا الديمقراطية» بقيادة الأكراد. ورغم رد الفعل الغاضب في واشنطن، كان ترامب هو من بدأ ترديد التصور التركي عن «قوات سوريا الديمقراطية» باعتبارهم «شيوعيين»! وهو الذي أشاد بـ«الصفقة» التي تم التوصل إليها مع تركيا وحققت جانباً من مطالب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وخففت عنه التهديد الأميركي المتصاعد بفرض عقوبات على اقتصاد بلاده الهش.
وبعد ساعات من الاجتماع في القصر الرئاسي التركي، أعلن نائب الرئيس الأميركي مايك بينس أن تركيا وافقت على وقف هجومها لخمسة أيام، ستساعد خلال الولاياتُ المتحدة في سحب المقاتلين الأكراد من الحدود التركية السورية. ولا يوجد ما يدل على ما إذا كانت تركيا ستنسحب، أو على موعد انسحابها من «منطقة آمنة» وبعمق 20 ميلا داخل سوريا. وذكرت «واشنطن بوست» أن إدارة ترامب قبلت التوقف عن فرض أي عقوبات اقتصادية جديدة على تركيا وسحب عقوبات فرضت في وقت سابق بمجرد أن «تنفيذ وقف إطلاق نار دائم»، وفقاً لبينس.
وفي بيان مشترك، عقب اجتماع بينس وأردوغان، التزم الجانبان بسحب «وحدات حماية الشعب» الكردية من الحدود التركية. لكن لم يتضح نوع وقف إطلاق النار المراد تطبيقه. فقد رفض مسؤولون أتراك مجرد استخدام المسمى. فهم ينظرون إلى «وحدات حماية الشعب»، العمود الفقري لـ«قوات سوريا الديمقراطية» باعتبارها امتداداً مباشرا لـ«حزب العمال الكردستاني»؛ المصنف إرهابياً في تركيا، والذي يقاتل أنقرة منذ عقود.
ووافق مسؤولو «قوات سوريا الديمقراطية» على وقف أعمال القتال في مناطق معينة ولم يؤكدوا الانسحاب الكامل من مواقعهم على امتداد الحدود. ولعل وصول القوات النظامية السورية والقوات الروسية المتحالفة معها، إلى شمال شرق سوريا، وهو نتيجة أخرى لمناورة ترامب، يزيد الأمور تعقيداً.
وجاء اجتماع أردوغان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً ليوضح المدى المتفاوت لتأثير صناع السياسة في أنقرة وموسكو على مستقبل سوريا السياسي.
وسوّغ ترامب قراره بالانسحاب من شمال شرق سوريا باعتباره وفاءً لرغبته في إخراج الولايات المتحدة من غابة الصراعات في الشرق الأوسط. لكن سحب ما كان يعتبر قوات قليلة نسبياً، بالقياس إلى الانتشار الأميركي في بلدان أخرى، أثار زلزالا جيوسياسياً أكبر بكثير. فقد استعادت قوات الحكومة السورية مساحة من الأراضي خلال أيام قليلة أكبر من تلك التي استعادها في شهور. وأظهرت الصور المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي فرحة جنود وصحفيين روس أثناء دخولهم معسكرات تركتها القوات الأميركية، مما يحمل دلالة كبيرة.
وفي واشنطن، تعالت صيحات الغضب؛ فقد صرح السناتور الجمهوري ميت رومني قائلا: «وقف إطلاق النار لا يغير من حقيقة أن أميركا تخلت عن حليف مما يضيف الإهانة إلى عدم الشرف».

*كاتب متخصص في الشؤون الخارجية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»