كانت جهود مكافحة الإرهاب والتطرف، خلال العقود الماضية، تتجاهل بناء وتعزيز ثقافة التسامح، أو لا تدرك أهمية المدخل الثقافي والفكري لنبذ ومحاصرة التطرف، لأن ظاهرة الإرهاب التي ولدت من رحم الإسلام السياسي، انتقلت إلى استخدام العنف والتكفير، واستحلال أمن المجتمعات بشكل مفاجئ في بيئة إسلامية، ولم يكن أحد يتوقع أن يحدث ذلك الانحراف باسم الدين.
لقد غابت الاستراتيجية الثقافية في البداية، وحضرت الاستراتيجية الأمنية لمواجهة الإرهاب، كما كان يحدث في صعيد مصر خلال الصراع ضد الجماعات المتطرفة في ثمانينيات القرن الماضي، وتم التركيز على المعالجات الأمنية لمحاربة الإرهاب، ومنحها الأولوية في كثير من الدول، مما أدى إلى استمرار منابع التطرف، وحصول أقطابه على منابر ووسائل إعلام، كانوا يبثون من خلالها سمومهم، وصولاً إلى امتلاك الإرهابيين كيانات منظمة، مثل تنظيم القاعدة، فـ«داعش»، إلى جانب مواقع ومنتديات وحسابات وقنوات على وسائل التواصل الاجتماعي.
هذا التطور الذي شهدته أدوات ومنابر الإرهاب، أدى بالمقابل إلى زيادة الوعي بأهمية الالتفات للجوانب الفكرية والثقافية في المواجهة مع منابع ثقافة التطرف، لأن وقاية الأجيال من هذه الآفة كانت وما تزال بحاجة إلى جدار حماية، يتمثل في التوعية ومحاربة الفكر المتطرف بثقافة التسامح.
وقبل أن ينتشر الوعي بخطورة المتاجرين بالدين، مضت عقود سيطر خلالها دعاة الغلو والتطرف على منابر الوعظ وتحكموا بأنشطة الشباب، وقاموا باستغلالها لزراعة أشد الأفكار تطرفاً، ولم يتم التنبه بسهولة لخطورة استمرار الحواضن الفكرية، التي ظلت تغذي عقول الشباب بالأفكار المتوترة، وتحرضهم على التكفير وممارسة العنف.
ومع مرور الوقت، بدأ الكثيرون ينتبهون لأهمية التوعية بمخاطر الإرهاب، وخطورة مَن يستغلون المنابر الإعلامية والدينية لغرس سموم التطرف.
من ضمن الجهود المؤسسية في هذا الجانب، تشرفت الأسبوع الماضي بإدارة الجلسة الثالثة والختامية من منتدى الاتحاد الرابع عشر، التي اشتملت على أوراق عمل ومداخلات، ضمن محور «الأخوة الإنسانية.. مقاربة لتعزيز قوة الإمارات الناعمة»، وفي عنوان المحور تكثيف لواقع الإمارات الذي يجد فيه الوعي العام للمجتمع حماية، تتمثل في قيم التسامح والأخوة الإنسانية التي أصبحت سلوكاً يومياً.
استحضرت ما بين مداخلات المشاركين، بعض الأفكار التي فرضت نفسها من وحي أوراق العمل المقدمة، فنحن في دولة الإمارات عندما نتحدث عن التسامح، نجد أن هذه القيمة ليست غريبة عن حياتنا اليومية وعن تاريخنا، كما أن التسامح من أبرز مآثر شخصية وسلوك ووصايا المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه.
كانت موجة التطرف منتشرة في العالم العربي، ووصلت رياحها المسمومة إلى منطقتنا، وبعضنا يتذكر مشاهد مرت عليه في مراحل الدراسة المبكرة، عندما كان التطرف يتحكم بالمناهج، وعندما كان «الإخوان» يمدون نفوذهم في قطاع التعليم، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
لم يكن التكفير، الذي استعمله الإرهابيون كسلاح لتبرير جرائم الإرهاب، سوى بذرة وضع نواتها الأولى من حاولوا فرض الوصاية باسم الدين على العقول، وكان مدخلهم المناسب السيطرة على المناهج التعليمية، ثم الأنشطة الطلابية، والمحاضرات التي روجوا خلالها للتمييز بين البشر ونبذ التسامح ونشر التطرف، وفي تلك الفترة سمعنا كلمة «كافر» تتردد على ألسنتهم، لكن التحصين الذي يملكه الإماراتي كان يقيه ويحميه من التطرف، ويتمثل في قيم التسامح والتعايش والتعاون مع جميع البشر.
من جهة أخرى، تجد أن المتطرفين يناقضون أنفسهم، فهم يستخدمون أحدث الاختراعات الغربية للترويج لفكرهم الإرهابي، ثم يهتفون ضد الدول الحديثة التي اخترعت لهم تلك الأدوات، من الكاميرا التي يصورون بها عملياتهم الإجرامية، إلى الأسلحة التي يستخدمونها، وصولاً إلى الملابس والنظارات التي يرتدونها، وبعد ذلك يصرخون ضد من يصفونهم بالكفار!
وبالنسبة لنا في الإمارات، عندما نقرأ تاريخنا، نجد أن المجتمع الإماراتي يتصف بالانفتاح ونمط العلاقات الاقتصادية التي تفرضها طبيعة المدن المطلة على البحر، مما جعل الإماراتي على معرفة واحتكاك بأتباع الديانات الأخرى، ولا ننسى أن أول معبد هندوسي في الإمارات يعود بناؤه إلى عام 1906، في تأكيد على عمق ورسوخ قيمة التسامح في الإمارات منذ وقت مبكر، وبالتالي لا يمكن لثقافة التكفير أن تجد لها صدى في مجتمعنا.

*كاتب إماراتي