بمناسبة بداية العام الدراسي بالمدارس والجامعات، فقد سبق وأن اقترح أحد الأساتذة الجامعيين توقيع العقاب الجسدي على الطلاب. والغريب أن يأتي ذلك من أستاذ جامعي يعرف أن الجامعة مكان للتفكير الحر والمستقل والمسؤول، أي لتربية المواطن الصالح.. وليست مكاناً للعقاب الجسدي.
والحقيقة أن العقاب هو العنصر الدائم في التربية، من المهد إلى اللحد، وهو يتراوح بين عقاب جسدي وآخر معنوي. وهذا الأخير له مظاهر جسدية، مثل هجر الزوج لزوجته، والخصام بعدم الكلام، والاشمئزاز بعبوس الوجه. ويبدأ العقاب في الأسرة عندما يعاقب الوالدان الأبناء بالضرب أو المنع من الخروج للعب، فإن أطاعوا نشئوا مرجفين خائفين من العقاب، وإن عصوا نشئوا عاصين، تلفظهم الأسرة لدرجة القذف بهم في الشوارع؛ فيصبحوا ماسحي أحذية وسيارات أو جامعي قمامة أو بائعين جائلين لمناديل الورق.. فإذا كبروا أكثر باعوا المخدرات.
وإذا دخل الأطفال الدرس، فالمدرس يضربهم بالعصا على اليدين إن أهملوا في أي شيء؛ الحضور المتأخر أو عدم المذاكرة. ويقسو العقاب فيكون الضرب بالمسطرة على الأصابع أو على القدمين الحافيتين المرفوعتين إلى أعلى. وأخف عقاب الوقوف والوجه إلى الحائط مع رفع الذراعين إلى أعلى. وقد يقع العقاب على الجسد كله. فالشخص هو الجسم، كما يُقال في الفلسفة الغربية المعاصرة، بعد الانتقال من «الأنا أفكر» إلى «الأنا جسم». وقد يتم الطرد من الفصل، ويشتد العقاب بالذهاب إلى الناظر الذي يفصل الطالب من المدرسة ما لم يحضر الوالد كي يعاقب ابنه بنفسه، فيتضافر عقاب الأسرة مع عقاب المدرسة.
أما الجامعة فيعتمد طلابها على الثقة بالنفس، وحرية الفكر، واستقلال الشخصية. وكان من يوجه الرصاص للطلاب في المظاهرات هي القوات البريطانية. فالطلبة هم دعامة الروح الوطنية ومؤسسو النهضة العلمية والحياة الثقافية.
فهل المقصود من توقيع العقاب الجسدي على الطلاب إجبارهم على الاعتراف على زملائهم؟ أم المقصود عقابهم بالفصل من كلياتهم وإبعاد أجسادهم عن منارات العلم؟ وما السر في تأصيل العقاب الجسدي في ذهن أستاذ الجامعة الذي طالب بتوقيعه على الطلاب؟ قد يكون مفهوم العقاب الجسدي الذي توارثته الثقافة الشعبية، مثل قطع اليد اليسرى في حالة السرقة، ثم اليد اليمنى في حالة تكرار السرقة، ثم القدم اليسرى إذا تحول الشخص إلى سارق، ثم القدم اليمنى إذا تخلى كلية عن الإيمان وأصبح من اللصوص. فماذا يبقى للإنسان بجسد دون أطرافه الأربعة؟ وإذا تحول إلى قاطع طريق يروع المسافرين الآمنين، فإنه يُصلب على جذوع النخل. وإذا زنت المرأة البكر كان العقاب الجسدي بالجلد، وإذا زنت وهي ثيّب فإنها ترجم حتى تموت.. وكلها حدود عصرها وزمانها. وفي قراءة أخرى للحدود أنه يستحيل تطبيقها إلا بعد إثباتها بشروط صعبة التحقق، مثل وجود شهود الزنا، وتوافر تكاليف الحياة اليومية للسارق، والأمن في الطريق لقاطعه.
لقد ألغت بعض الدول الغربية، مثل سويسرا، كل العقوبات الجسدية، بما فيها الإعدام، وجعلت السجن المؤبد فترة تتم خلالها الاستفادة من طاقة المحكوم عليهم.
وتكون نتيجة العقاب الجسدي إما خلق الإنسان الخائف الجبان أو العاصي الخارج على المجتمع، والذي يهرب إلى الداخل للانضمام إلى الفرق الصوفية التي تجد الخلاص في ترديد المدائح والابتهالات، أو يهاجر إلى الخارج ويحاول التكيف مع المجتمع الجديد بعد أن لفظه عنف مجتمعه الأم.
*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة