لم تنجح الحلول السياسية والعسكرية للقضية اللبنانية التي شغلت العالم في السبعينيات من القرن الماضي، بالوصول إلى حالة الاستقرار والبناء المعافى من فتن الطائفية. كان التدخل السوري تحت شعار قوات الردع، يعتمد القوة العسكرية التي تمكنت من فض الاشتباك، لكنها لم تقض على أسبابه، فبقيت النفوس محتقنة، ولاسيما بعد أن فقد اللبنانيون قرارهم الوطني، ولم تتمكن الطبقة السياسية التقليدية الحاكمة، بعد اتفاق الطائف، من الوصول إلى لبنان جديد يستفيد من درس السبعينيات القاسي، الذي أدخل الشعب اللبناني في حرب طاحنة دمرت البلد، وهجّرت نصف الشعب. وما أخشاه لاحقاً أن يكرر السوريون هذا الخطأ فلا يستفيدون من الدرس السوري الراهن بعد انتهاء مأساتهم، وأن تستمر الأسباب التي أدت إلى المأساة الكبرى قادرة على بدء مأساة جديدة.
لقد كان ارتهان القرار اللبناني للخارج سبباً في إبقاء الصاعق الكامن قيد الانفجار، وهذا الصاعق هو الطائفية السياسية التي أنهكت لبنان، وهي الداء البغيض الذي يهدد سوريا أيضاً، وقادة العالم يعرفون جيداً أن الصراعات الطائفية هي مكمن الضعف في الوطن العربي، ولهذا جاء التوصيف الأول للحكم المنشود حلاً للقضية السورية من الأمم المتحدة، هو قيام حكم غير طائفي.
وهذه الوصفة التي يعرف الجميع أنها العلاج لكل القضايا التي تقود إلى الانهيار هي ما يحتاجه لبنان، وهي ما ينادي به الشعب اللبناني اليوم في تظاهراته الوطنية التي ملأت الساحات في كل مناطق لبنان وشاركت فيها كل أطيافه.
إنها لحظة تاريخية مهمة ينبغي أن يفيد منها القادة السياسيون الوطنيون الذين ينبغي أن يظهروا من قاع الشعب ومن هدير شعاراته الوطنية، للتخلص النهائي من هذا المرض التاريخي الذي أنهك بلاد الشام تاريخياً، وقد عانت منه أمم شتى، وتسبب في حروب مدمرة، لكن كثيراً من هذه الأمم في أوروبا وأميركا وسواهما، تمكنوا من السمو والارتقاء فوق المصالح الضيقة والانتماءات الصغيرة، وانتهوا من أسباب التمزق الاجتماعي، دينيةً كانت أم مذهبيةً أم عرقيةً، وباتت المواطنة وحدها هي أساس العقد الاجتماعي، وصار القانون وحده المرجعية التي تحقق العدل والمساواة بين المواطنين.
ويبدو أن الحل الوحيد أمام الشعب العربي، كي يواجه أعداءه، هو ترسيخ التسامح بين أطيافه، وهنا أجد اهتمام دولة الإمارات بجعل (التسامح) شعاراً مبدئياً، منهجاً أخلاقياً ينبغي أن تمارسه كل الشعوب التي تفتك فيها عوامل ونزعات التمزق والتفرق والتشتت، وطريق هذا التسامح هو الاعتراف المتبادل بكل الخصوصيات الدينية والثقافية والفكرية، وليس تجاهلها أو إلغاءها فهذا غير ممكن، وقد شهدنا في تسعينيات القرن الماضي ظهور (العولمة)، التي سعت إلى دمج الثقافات والمجتمعات عبر روابط اقتصادية وتجمعات سياسية وحلم (فوكوياما) بأن التاريخ انتهى بالانتصار النهائي للرأسمالية، وظن مفكرون كثر أن عصر الحروب سينتهي، لكن التاريخ فرض حركته على الجميع، فشهدت البشرية من الحروب في مطلع القرن الحادي والعشرين سلسلة لا تنتهي من الصراعات، واستيقظت الإثنيات في مناطق عديدة تبحث عن خصوصياتها، ولم يكن الحوار بالأفكار سبيل الوصول إلى الحقوق، وإنما صار حواراً بالأسلحة المدمرة.
ونحن في حالتنا العربية الكارثية أشد الأمم حاجة إلى التسامح، ولتجاوز كوارث التاريخ ومآسيه، لبناء مستقبل آمن عماده المواطنة، وأدعو الله أن يتمكن شعبنا العربي في كل مناطق التوتر والصراع من الارتقاء المطلق فوق الطائفية، والبحث عن عقد اجتماعي جديد.
* وزير الثقافة السوري السابق