عاد سؤال ما بعد نتنياهو أكثر قوة من قبل، إذ طرح السؤال نفسه بعد الانتخابات الإسرائيلية التي أجريت في 17 أيلول سبتمبر الماضي، لكن بعد تكليف الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين لنتنياهو بتشكيل الحكومة توارى السؤال، وإن ظل التوقع بفشل نتنياهو في تشكيل الحكومة قائماً، وها هو يعلن انسحابه من المهمة التي كلفه بها رئيس الدولة، مفسحاً المجال لمنافسه بيني جانتس، وقد بدا أن جانتس هو المرشح المنطقي لتشكيل الحكومة، لكن ربما يكون تقديم نتنياهو يعطي جانتس فرصة أفضل؛ ذلك أنه سيأتي بعد فشل نتنياهو؛ الأمر الذي سيعطيه مرونة أو مبررات في التحالف مع القائمة المشتركة (النواب الفلسطينيون) أو اليمين بقيادة ليبرمان، لكن يظل احتمال فشل جانتس قائماً، وفي هذه الحالة سيمنح رئيس الدولة للكنيست تفويضاً لتشكيل الحكومة، وإذا لم ينجح فسوف تجري انتخابات جديدة وللمرة الثالثة في منتصف شهر مارس 2020.
الخيارات المتاحة أمام جانتس ستجعل حكومته هشة وعرضة لفقدان الغطاء النيابي، ما يجعل خيار إعادة الانتخابات أمراً وارداً، وفي حال شكّل الحكومة فلا يتوقع أن تكون قادرة على الصمود أربع سنوات، وليس أمام الإسرائيليين سوى التفكير في خيارات جديدة قبل أن يذهبوا إلى صناديق الانتخاب، لأن إعادتها بنفس الانقسام الحاصل يدفع بالحياة السياسية إلى الاستعصاء، لكن في هذه المرة يجب أن يقرر الإسرائيليون اختيار اليمين والأصولية أو التخلي عنهما والاتجاه نحو الوسط واليسار.
إن الانتخابات العامة في تكرارها تصلح مؤشراً إلى التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها الأمم وتعبر عنها على نحو غامض لم تدركها بعد بوضوح، أو لا تريد الاعتراف بها، وتفكر خاصة الاتجاهات المحافظة في مقاومتها، فما من واقع يتشكل إلا وتتشكل طبقات تجد مصالحها في هذا الواقع والدفاع عنه والتمسك به، وتجد مصالحها أيضاً في مقاومة التغيير، لكن طبقات جديدة تتشكل دائماً، وتجد في التحولات فرصة للتغيير، هكذا يمكن النظر، على سبيل المثال، إلى الانتخابات التونسية وقبلها الفرنسية، والتي تعكس بوضوح التهديد الذي يواجه الطبقات والأيديولوجيات والاتجاهات السياسية التي تشكلت حول الدولة الحديثة في طبيعتها المركزية، وبطبيعة الحال فإن الشبكية السائدة أو التي تحلّ على العالم تلقى بظلالها على الموارد والسياسة، وتمتد أيضاً إلى الفلسفة والاجتماع والثقافة.
وفي ملاحظة الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة بالمنظور نفسه، يبدو مرجحاً أن «اليمين» والأصولية يواجهان الانحسار وربما الفناء، ذلك أن صعودهما لم يكن في السياق الطبيعي للأمم والتحولات، لكنهما يعبران عن أزمة الليبرالية في مواجهة العولمة والشبكية التي عصفت بكل تراث الأمم السياسي والاقتصادي، بل وبمؤسساتها التنظيمية التي أدارت بها الشعوب والدول والعلاقات الدولية، وفي حالة الخوف والارتباك التي اجتاحت العالم منذ أواخر الثمانينات، كان متوقعاً أو طبيعياً أن تحتمي الأمم بهوياتها وتاريخها، أو تبحث عن أفكار وأوعية جديدة للعمل والتفكير، ولما كان التاريخ مجرباً وقادراً على الدوام أن يمنح الأمم- ولو شعورياً- مظلة للاحتماء والوجود العميق ومواجهة الفشل، فقد كان الخيار اليميني والأصولي حاضراً، وفي المقابل، فإن الحلول والأفكار الجديدة تظل مغامرة مجهولة المسار والعواقب.
هكذا أيضاً، فإن أزمة اليمين هي أزمة الوسط واليسار؛ نتنياهو يعكس على نحو ما أزمة جانتس، أو هو الوجه الآخر لأزمته، فاليمين سواء كان التيار المحافظ الذي تعود الوسط الليبرالي على التعايش معه، أو الأصولية المناقضة لليبرالية من داخلها وبأدواتها؛ يمثل أزمة الوسط الليبرالي حين يعجز عن التعبير عن قيم الطبقة الوسطى المنتجة له، أو حين ينتج الوسط نفسه طبقة جديدة لا تعود مصالحها متفقة مع الطبقة الوسطى والليبرالية بطبيعة الحال، فيتحول الدواء إلى داء، ويكون الحلّ مشكلة! وقد تبدو الأزمة في تكرارها وتعاقبها وكأنها حتمية تاريخية، لكن العمليات السياسية والاجتماعية أنشأت فلسفة وقيماً تحمي هذه المنظومة من خلال المراوحة بين الليبرالية والمحافظين واليسار الديمقراطي والاجتماعي، ففي حين كانت الليبرالية تنشئ أرستقراطيتها «المحافظة» فإن الديمقراطية كانت تدفع من خلال اليسار إلى تجديد الطبقة الوسطى وكبح المحافظين، لكنها لعبة تواجه النهاية، إذ لم يعد اليسار قادراً على تزويد الليبرالية بطاقة جديدة، هذا (اليسار) تحول إلى ليبرالية بقدر من العدالة الاجتماعية أو إلى فلول بائسة، وفي أحيان كثيرة تحول اليسار إلى قوى محافظة ومتطرفة في محافظتها، بل ومنحت المحافظين زخماً وعنفواناً جديداً.. وهو ما سمي بـ«المحافظين الجدد»، لكنه أيضاً زخم تشكل لمرة وحيدة، لأنه وببساطة لم يعد اليسار موجوداً، ولم يعد ثمة فرصة واقعية لتجديد الليبرالية أو اليمين المحافظ، إنه عالم جديد يحاول جانتس- الجديد هو أيضاً على السياسة- أن يتعامل معه ويديره، والعالم يتفرج كما لو يراقب تجربة تجري في المختبر.. ما يجري اليوم ربما لا يمكن فهمه إلا في البيولوجيا السياسية!
*كاتب وباحث أردني