على العكس تماماً مما يقال، لم يكن السبب في غزو تركيا للشمال الشرقي السوري هو قرار ترامب بسحب القوات الأميركية من تلك المنطقة. كان قرار ترامب هو المسَهِّل والفرصة المنتظرة، لكنه لم يكن السبب بالمرة. كانت أنقرة تُعد لهذا الغزو منذ فترة طويلة، والحقيقة أن هناك تأييداً داخلياً في تركيا لمثل هذا الغزو؛ لأن العديد يعتقدون أن الأقلية الكردية تمثل خطراً على الدولة التركية، وأن أي دعم لها ولو بطريق غير مباشر يزيد من هذا الخطر. بمعنى آخر فإن أي مكسب للأكراد في أي من الدول المجاورة قد يُشجع أكراد تركيا على طلب المزيد من الحقوق والاستقلال الذاتي، أي سيكون حافزاً يغري بتقليده أو اتباعه.
وجاء قرار ترامب المفاجئ والارتجالي ليكون الفرصة السانحة إذن، بمعنى أنه أخلى الطريق، كما فهمه البعض في أنقرة على أنه نوع من الضوء الأخضر، خاصة عندما يقول ترامب إن الحدود التركية السورية ليست حدود الولايات المتحدة.
السؤال الرئيسي هنا هو: ما هي نتيجة هذا الغزو؟
1- تفقد واشنطن في الحقيقة الكثير؛ لأنها تبدو كحليف أو شريك لا يمكن الاعتماد عليه. فقد قام أكراد سوريا بخدمة كبيرة للقوات الأميركية والمجتمع الدولي خلال الحرب على «داعش» وأسْر العديد من زعمائها، لكن ها هي الإدارة الأميركية، بدلاً من مكافأتهم، تقوم بإضعاف الأكراد، بل وتسليمهم إلى أَلَدّ أعدائهم.
2- تبدو أنقرة في حالة انتصار بعد اجتياحها الأراضي السورية بسهولة نسبياً، وقد تحتفظ ببعض هذه الأراضي أو على الأقل تفرض عليها نظاماً معيناً يجعلها بعيدة عن خصومها الأكراد، وفي الوقت نفسه ترسل رسالة واضحة للأقلية الكردية في الداخل بضرورة الالتزام والخضوع للدولة التركية. لكن ثمن هذا الانتصار الجزئي بالنسبة للنظام التركي يتعدى بكثير فوائده. فالعلاقات مع الأصدقاء والشركاء في تدهور، ليس واشنطن أو موسكو فقط، ولكن خاصة الحلفاء داخل حلف شمال الأطلسي «الناتو»، خاصة دول الاتحاد الأوروبي، حيث اتهم الرئيس الفرنسي أردوغان بالجنون، وأعلنت معظم الدول الأوروبية الحظر على إرسال الأسلحة لتركيا. فقدت تركيا العديد من قوتها الناعمة حتى قبل أن يزداد الحديث عن جرائم حرب، وقد يكون هذا الغزو نهاية حلم تركيا بالانضمام للاتحاد الأوروبي، دون تحقيق الحلم الآخر في العثمانية الجديدة والزعامة الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط.
3- يزداد الوضع الإقليمي سوءاً، حيث تنتعش عناصر «داعش» التي كانت على وشك الموت بسبب الضربات الكردية، بل إن زعماءها يهربون الآن من السجون لضخ مياه الحياة في شرايين عصاباتها ومؤيديهم. ومن ناحية أخرى، يزداد عدد اللاجئين والنازحين. فحالياً هناك حوالي 140 ألف نازح، وعدد يتزايد باستمرار، نحن إذن أمام كارثة إنسانية أخرى تُصيب المنطقة، وتزيد من الوصمة التي ترتبط بها على المستوى العالمي.
هل هناك من كاسب؟
أ- تأتي في المقدمة روسيا التي لها بالطبع موطئ قدم قوي في الأراضي السورية، ومقارنة بالأسلوب الارتجالي لدى الإدارة الأميركية، تبدو موسكو أكثر استقراراً ويمكن الاعتماد عليها.
ب- نظام بشار الأسد يكسب هو أيضاً من عودة الأكراد للتعاون معه ضد الغزو التركي، وبالتالي تزداد مصداقية دمشق، حيث تُوسّع من قاعدتها الشعبية التي كانت تدهورت كثيراً.
ج- تزداد أيضاً مصداقية خصوم تركيا في المنطقة، خاصة في القاهرة التي هاجمت أردوغان وسياساته الداعمة لمنظمات إرهابية.

*أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الأميركية -القاهرة