تناول المغردون في شبكات التواصل الاجتماعي تلك الرسالة غير المسبوقة التي وجهها الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بكثير من السخرية المفرطة. ومن يستطيع أن يلومهم على ذلك، وترامب يخاطب رئيس دولة بقوله: «لا تكن أحمقاً»! هذه لغة غير معهودة في الخطابات الدبلوماسية الحديثة. ورغم استماتة أردوغان في حفظ ماء وجهه، إلا أن ترامب أصرّ هذه المرة على إذلاله بتسريب هذا الخطاب لكي يعرف العالم قدر الرئيس التركي والدور الذي يلعبه ولا يستطيع أبداً تجاوزه. إنها ليست المرة الأولى التي يجبره فيها ترامب على أن يغيّر موقفه، فبعد إصراره على أنه لن يسلم القس الأميركي «أندرو برانسون»، عاد وسلّمه مذعناً، وبعد قوله بأنه لن يرضى إلا بالحوار مع الرئيس ترامب بخصوص عمليته العسكرية الأخيرة في سوريا، وأنه لن يجلس مع نائب الرئيس مايك بنس، عاد أيضاً وجلس معه، لينتهي اللقاء بإعلان بينس في أنقرة يوم الخميس 17 أكتوبر بأن تركيا وافقت على وقف إطلاق النار لمدة 120 ساعة. هذا الإعلان لم يفاجئ مَن يقرؤون المشهد جيداً، لكنه كان صدمة كبرى لأولئك الذين كانوا بالأمس القريب يهللون لـ«نجاحات» و«انتصارات» أردوغان والعملية التركية ضد أكراد شمال سوريا. لقد أعلن بينس أن وقف إطلاق النار غرضُه السماح للقوات الكردية بالانسحاب من منطقة آمنة محددة تم الاتفاق عليها بين ترامب وأردوغان في 6 أكتوبر، وإفساح الطريق للمفاوضات من أجل وضع نهاية دائمة للصراع. وقامت القوات الأميركية بتسهيل عملية انسحاب الأكراد، وفشل المشروع التركي برمته.
واقعاً، لا ينبغي أن يغضب المؤيدون لأردوغان من الأميركيين، لأن بينس أنقذ أردوغان من ورطة كبرى قادته إليها حماقاته التي لا تنتهي. ومن حماقاته المتكررة هذه العملية العسكرية الأخيرة التي فشلت تماماً وانحرفت بعيداً عما كان يراد من ورائها، وأُحبطت بوصول قوات الدولة السورية إلى المناطق الكردية بدعم عسكري من روسيا، بعد صفقة مبكرة بين الأكراد ودمشق، بينما كانت القوات التركية ما تزال تقدم رِجلاً وتؤخر أخرى. هناك تنسيق وثيق بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، وهذا التنسيق لم يترك أمام شخص مثل أردوغان سوى القليل من الخيارات، وهي خيارات لا تتجاوز الرقص على الموسيقى التي يعزفها ترامب والدوران في فلك سياسته. ولو استمر في هذه العملية الفاشلة منذ البداية لوجد نفسه هو والجيش التركي أمام جبهة واسعة تضم روسيا والجيش السوري والأكراد، لذلك توقف أردوغان وأذعن لطلب ترامب للهدنة المؤقتة.
هذا هو عالم السياسة، كل رجل سياسة يناور لتحقيق مصالح معينة يرى فيها نجاحه أو يتجافى عن عقبات معينة يرى فيها إخفاقه، لكن من يحتاجون فعلاً لأن يعيدوا النظر وأن يراجعوا أنفسهم، هم من أعطوا الرئيس التركي أردوغان حجماً أكبر من حجمه، وألبسوه عباءة ليست له، فأصبحوا يعتبرونه «سلطان المسلمين» وسلالة الفاتحين ومجدد الدين، ووهبوه ولاءً كان يُفترض أن يهبوه لأوطانهم.. هؤلاء في الحقيقة أكثر حماقة من  سياسات أردوغان.