يمكن للجنس البشري أن يتخلص من مرض الملاريا، وأن يقضي تماماً على الطفيلي المسبب له خلال جيل واحد، أي بحلول عام 2050. هذه كانت خلاصة تقرير بدأ العمل فيه قبل ثلاثة أعوام بتفويض من منظمة الصحة العالمية، لمعرفة ما إذا كان من الممكن تحقيق هذا الهدف، وما متطلبات تحقيقه، وكم ستكون تكلفته. وقد شارك في هذا التقرير الذي وُصف بأنه الأول من نوعه، واحد وأربعون من أشهر العلماء والاقتصاديين والخبراء في مرض الملاريا، ونُشر الشهر الماضي في إحدى أعرق الدوريات الطبية في العالم وهو دورية «Lancet».
ويمكن إدراك خطورة مرض الملاريا على الصعيد الصحي عالمياً، من خلال الإحصائيات والبيانات التي تظهر أن الملاريا تصيب أكثر من 200 مليون شخص سنوياً، يلقى 435 ألفاً منهم حتفهم بسبب المرض، غالبيتهم من الأطفال. هذه الأرقام على ضخامتها، تشكل تحسناً ملحوظاً، بالقياس إلى ما كان عليه الوضع قبل سنوات قليلة. فمنذ عام 2000، انخفض عدد الدول التي يوجد فيها مرض الملاريا من 106 دول إلى 86 دولة فقط، وانخفضت معدلات الإصابة به بنسبة 36 في المئة، ومعدلات الوفيات بسببه بنسبة 60 في المئة.
وليس من المبالغة في شيء، النظر إلى طفيلي الملاريا على أنه إحدى القوى الرئيسية التي لعبت دوراً مهماً في تحديد مسار التاريخ البشري في العديد من مراحله، حيث تظهر الدراسات الأثرية، أن طفيل الملاريا ظل يصيب أفراد الجنس البشري على مدى أكثر من 50 ألف عام، وهو ما يعني تقريباً أن هذا الطفيلي ظل يتغذى فعلياً على دماء البشر منذ وطئت أقدامهم سطح هذا الكوكب. وحتى يومنا هذا، كما لا يزال طفيلي الملاريا من أهم القوى المؤثرة في مقدرات البشر في العديد من مناطق العالم، حيث تصنف الملاريا ضمن أكثر الأمراض المعدية فتكاً بالبشر على الإطلاق، خصوصاً بين الأطفال، وذلك حسب التقديرات التي تشير إلى وفاة طفل بالملاريا كل 30 ثانية. وبخلاف هذا الثمن الإنساني الفادح، يتسبب طفيلي الملاريا أيضاً في خفض الناتج الاقتصادي الإجمالي للدول التي يستوطن فيها مرضه.
إلا أن تحقيق حلم القضاء على الملاريا، ليلحق مثلا بمصير فيروس الجدري الذي تم القضاء عليه في عقد السبعينيات من القرن الماضي، ليس بالحلم المستحيل أو البعيد تماماً على التحقق، حسب خلاصة التقرير المشار إليه آنفاً، وإن كان ذلك سيمثل إنجازاً هائلا للجنس البشري برمته. وبدايةً سيتطلب تحقيق هذا الحلم زيادة الإنفاق الدولي على جهود المكافحة والعلاج بمقدار ملياري دولار سنوياً، هذا بالإضافة إلى الـ4.3 مليار دولار التي يتم إنفاقها في الوقت الحالي. ولابد أن تترافق هذه الزيادة في الإنفاق، والتي تقارب 50 في المئة من حجم الإنفاق الحالي، باختراقات علمية طبية مهمة، وباستغلال التقنيات المتوفرة حالياً، وتطوير تقنيات حديثة، بالإضافة إلى تنسيق وتضافر جهود المكافحة والعلاج على الصعيدين الوطني والدولي.
وربما كان أحد أهم المجالات العلمية التي تعلق عليها الآمال في تحقيق حلم القضاء على طفيلي الملاريا، هو مجال الهندسة الوراثية، وبالتحديد ما يعرف بالغرس القسري للجينات الوراثية (Gene-Drives). ففي هذا الأسلوب، وعلى عكس قوانين الوراثة الطبيعية، يتم الدفع بجين ما إلى الانتشار قسراً، خلال مجموعة من الكائنات الحية. وفي حالة الملاريا يمكن –نظرياً- نشر جين يجعل من البعوض الناقل للطفيلي عقيماً، غير قادر على الإنجاب أو التكاثر، أو أن يجعل البعوض مقاوماً للعدوى بالطفيلي من الأساس، ومن ثم يوقف سلسلة انتقاله إلى الإنسان.
وبغض النظر عن التقنية البيولوجية الحديثة المزمع تطويرها لتحقيق حلم القضاء النهائي على الملاريا، فليس من الممكن تحقيق هذا الحلم بدون تعاضد وتآزر القطاعين الحكومي والخاص مع بعضهما البعض، وبالتعاون مع المنظمات الدولية، إذا ما كان للمجتمع الدولي أن ينجح في تنفيذ العديد من استراتيجيات المكافحة، مثل التوزيع واسع المدى للناموسيات المعالجة بمضادات الحشرات طويلة المفعول، أو تطوير فحوصات تشخيصية دقيقة وسريعة، أو تطوير أساليب علاجية معتمدة على عدد من العقاقير في آن واحد.
وجدير بالذكر أنه بعد البدء في تطبيق استراتيجية المكافحة الشاملة في دولة الإمارات العربية المتحدة منذ عام 1977، تمكنت الجهات الصحية المحلية من خفض معدلات الإصابة بالملاريا بأكثر من 70 في المئة بحلول عام 1985، وتوقف انتقال المرض كلياً بحلول عام 1998. وقد نجحت دولة الإمارات منذ ذلك الوقت، في الحفاظ على وضعها كأول دولة في إقليم شرق المتوسط، يتأكد لمنظمة الصحة العالمية وللهيئات الصحية الدولية خلوها كلياً من المرض وبشكل نهائي.