سقطت المبررات المعلنة من الجانب التركي للعدوان على سوريا سريعاً، ولم تتطلب الكثير من الوقت أو التدرج في كشف أو انكشاف النوايا. لأن مبررات أنقرة كانت وستبقى واهية، من خلال قيامها على الادعاء بحماية السيادة الذاتية، لكن من خلال شرعنة انتهاك سيادة الآخرين، وترويع وتهديد أمن المدنيين المسالمين. ثم وصل الحال بتركيا إلى حد الإفصاح عن الرغبة في انتهاك سيادة وأمن كل من سوريا والعراق واليونان، كما تكشف خريطة تروج لها أنقرة. ولذلك جاء سقوط تلك الادعاءات من داخل النظام التركي نفسه. فبعد أن كان الهدف المعلن من الحرب ضد المدنيين في شمال سوريا هو المزاعم التركية المتعلقة بتأمين الشريط الحدودي من هجمات الأكراد، ذهب أردوغان بأطماعه ونواياه بعيداً، بينما كشف توقيت العدوان عن انتهازية تركية مفرطة، سواء لجهة استغلال هشاشة الوضع في سوريا، أو لجهة حاجة النظام التركي إلى عملية عسكرية خارجية ترفع شعبيته المنهارة في الداخل التركي.
لكن وزير الدفاع التركي لم يتمكن من إخفاء مخطط أوسع من الأهداف المعلنة. فرغم أن سقف تركيا المحدد من وراء تدخلها العسكري في سوريا، المرفوض دوليا، كان يتلخص في تأمين 32 كيلومتراً على الجانب السوري، حسب المزاعم التركية، بحجة إنهاء هجمات المعارضة الكردية، فإن وزير الحرب التركي لم يتمالك نفسه وكشف عن الخريطة الجديدة لتركيا، لتظهر فيها أجزاء من سوريا والعراق وبلغاريا واليونان وقبرص (بشطريها)، ضمن خريطة تركيا المتخيلة!
كانت أنقرة تنتظر الفرصة للاعتداء على الآمنين في الشمال السوري، ورغم التدخل الأميركي المتأخر لوقف العملية التركية وإنقاذ الأتراك من المستنقع السوري، ومن التورط في زيادة أعداد الضحايا المدنيين، فإنه من الواضح أن الجانب التركي ارتكب الكثير من الانتهاكات، وكل همه تحقيق الوعود التي قطعها لنيل رصيد شعبي على حساب الضحايا السوريين.
وبكل وقاحة، وفي ظل معاناة المدنيين السوريين في منطقة الاشتباك وما طالهم من عدوان وحشي، واصل المسؤولون الأتراك الحديث عن «المنطقة الآمنة» بعد حدودهم في سوريا، بينما تسبب الاعتداء التركي في المزيد من الذعر للمدنيين، وأصبح معلوماً أن الهدف من العملية بسط النفوذ التركي وتهجير السكان وإضافة مزيد من الرعب في أوساط ما تبقى من المدنيين الآمنين الذين لا تنقصهم المعاناة المستمرة في سوريا منذ سنوات. بينما لا يفكر الجانب التركي سوى في حصد نقاط لرفع شعبية نظام أنقرة ولو من خلال انتهاك أمن وسيادة دولة أخرى.
وبالفعل تورطت تركيا في انتهاكات جسيمة سجلتها المنظمات الدولية، وهرعت الولايات المتحدة للعب دور المنقذ، لكنها لم تفعل ذلك إلا بعد أن منحت الجانب التركي وقتاً كافياً للتوغل في سوريا، وعندما بدأ الضغط الأوروبي والتلويح بعقوبات جاء دور نائب الرئيس الأميركي مايك بنس، الذي أعلن التوصل إلى اتفاق مع تركيا لإنهاء عدوانها العسكري. والغريب أن الاتفاق منح العدوان مهلة إضافية لمواصلة أعماله الوحشة ضد المدنيين. وطوال الساعات الماضية تحدث الإعلام عن انتهاكات وخروقات صاحبت الاتفاق الذي قضى بتجميد التوغل التركي في سوريا. ولا شك أن الأتراك أرضوا غرورهم، لأن الاتفاق استخدم مفردة التجميد التي توحي بالوقف المؤقت للعدوان، الأمر الذي يستدعي من المجتمع الدولي مزيداً من الضغط على تركيا لوقف تهديداتها التي لا تواجه حتى الآن برادع قوي يضمن عدم تكرار عدوانها.
ويمكن الخروج باستنتاجات من وراء تكشير تركيا عن أنيابها وعدم وضعها أي اعتبار لمعاناة المدنيين في شمال شرق سوريا جراء العملية العسكرية التركية؛ إذ لا يمكن عزل ما قامت به تركيا خلال الأيام الماضية عن نمط تعاملها مع الملف السوري عموماً طوال الأحداث التي عرفتها الساحة السورية. ما يعني أن العبث التركي في سوريا له أوجه مختلفة لا تخلو من البشاعة والانتهازية والاستغلال غير النزيه لمعاناة السوريين. وجاء العدوان التركي العسكري مؤخراً على المدنيين هناك، ليكشف المزيد من النفاق والخداع التركي، ويحث على مراجعة أداء تركيا وأسلوب تعاطيها مع أزمات الجوار العربي، وعلى الأخص استغلالها للأوضاع في سوريا.
*كاتب إماراتي