لو سألتني يا فؤادي، أين الهوى (الذي) «كان صرحاً من خيال فهوى»؟ لوجدتني أخالف الشاعر لأجيبك: ليس صحيحاً أن الهوى قد هوى، بل على العكس من ذلك، إذ ارتقى وارتفع وسما حتى استقر عند فقيد العدالة والقانون والعمل الوطني والعلم والمعرفة والتواضع والعطاء «فؤاد شحادة» رحمه الله.
ولمن عرف «فؤاد شحادة» أو لم يعرفه، أقول: هذا «فؤاد» الذي كان عن حق فؤاداً كبيراً يمشي على قدمين! فكل ما في «فؤاد».. فؤاد، وأجمل ما في «فؤاد» كونه ذلك الفؤاد.
في كل مرة، أمارس فيها «حق العودة» إلى رام الله أتنعم بزيارة الأخ والصديق والحبيب «فؤاد». بل، كم من مرة قصدت فيها رام الله وحافزي الأكبر أن أرى فؤاد الذي لطالما أنعش مني فؤادي المنهك من بشاعة حقيقة الاحتلال الإسرائيلي البادية على أكثر من صعيد. كنا نجلس إلى بعضنا البعض نحتسي القهوة (أحد أسرارنا الشهير) ونتسامر.. كنا نبحث في أمور شتى، نتمازح أحيانا بقفشات، وأحياناً بنكت مفرحة، وتارة ثالثة بإطلاق نكت سوداء خاصة كلما جاءت سيرة الاحتلال الصهيوني الأسود ومقارفاته السوداء. نتبادل الآراء في كتب قديمة وأخرى حديثة. نمارس ما كاد يصبح «هواية قومية» على امتداد العالم العربي، أي نمارس «النميمة»، لكن النوع الهادف منها! فما من مرة نممنا فيها على مسؤول سياسي أو طبيب أو مهندس.. إلخ، إلا و«كان الوطن من وراء القصد»! ولطالما بحنا لبعضنا بكل أنواع الهم العام؛ السياسي والوجداني والفكري والإنساني. لا حواجز ولا كوابح ولا سواتر بيننا، سواء في اللغة أو في خلايا الدماغ. يبوح المرء فينا كأنما يبوح لنفسه، فما أمتع جلسات صاحب الفؤاد الكبير.. «فؤاد»!
الأستاذ فؤاد شحادة سنديانة كبيرة من سنديانات فلسطين الوارفة الظلال. في أفيائه تدرب مئات المحامين أو أكثر. بل إن الامتدادات القانونية لدى فؤاد تجاوزت فلسطين إلى الشقيق التوأم الأردن. ثم من الأردن وفلسطين إلى بلدان عدة على امتداد العالم العربي والعديد من بلدان العالم. ومع أن الأستاذ والمحامي «فؤاد» عانى لسنوات طوال من فقدان بصره، فإنه –بعد أن تجاوز حاجز الـ93 سنة من عمره الحافل، لم يستطع أحد الزعم بأنه رأى أو عمل أكثر من «فؤاد شحادة». لذلك، وفي عام 2016 اعترفت له «موسوعة جينيس» بالفضل، وسجلت له، رسميا، لقب «أطول وأقدم ممارس لمهنة المحاماة في العالم»! انتبهوا معي: «في العالم»!
ولطالما تحدثت عن ألمي الكاسح من بشاعة ما حدث لفلسطين ولنا نحن معشر الفلسطينيين في السنوات الـ75 التي مضت من عمري. فالحسرة مقيمة في أعماق قلبي كلّما تذكرت أنه عند مولدي، كانت فلسطين التاريخية كلها لنا (باستثناء 5.6% منها تم منحها لليهود الصهاينة من حكومة الانتداب البريطاني ومن بعض البيوعات العربية والفلسطينية النادرة بل الشاذة). وحين كنت أبوح لأستاذ الأجيال «فؤاد» بهذه الحقائق والمشاعر كان يجيبني: «ماذا، إذن، أقول.. أنا؟! وعن أي مرارة أتحدث؟! فإن كنت أنت قد ولدت (3.5) سنة قبل قيام إسرائيل، فأنا ولدت (3.5) سنة بعد مجيء الانتداب البريطاني الذي أسس النواة لقيام الدولة الصهيونية». ومعلوم أن الأستاذ فؤاد كاد يكون من أوائل شهداء فلسطين في أربعينيات القرن الماضي حين تعرضت في عام 1948 سيارة «فايز المهتدي» (وكان يسوقها ومعه فؤاد ووالدته) إلى قصف صهيوني استشهد على أثره فايز فوراً، فتولت الوالدة السيدة «ماري صروف» (إحدى أبرز رائدات فلسطين في عدة مجالات) قيادة السيارة وهي تتدحرج نحو الوادي بعد أن أصيب فؤاد بعدة رصاصات (بقي بعضُها في جسده حتى لحظة رحيله).
كان المحامي فؤاد ضريراً، لكن رغم انعدام الضوء في بصر عينيه، فإنه كان يبصر بقوة البصيرة. وبصيرته كانت أقوى من بصر غالبية من عرفت، وأنفذ من بصائر غالبية من قابلت.
تسعيني نعم، لكنه بقي حتى رحيله على رأس عمله في مكتبه (حيث المحامون من أبناء العائلة الذين ورثوا المهنة عن الأخوين المحاميين عزيز وفؤاد شحادة، إضافة إلى غيرهم من المحامين الذين كانوا يعملون إلى جانبه ويتعلمون منه). واللافت المبهر أن المحامي (فؤاد) كان يعمل على مدى 6 أيام في الأسبوع، من الثامنة صباحاً وحتى الخامسة مساءً. ثم يعود إلى البيت، فيستريح نصف ساعة أو يزيد قليلا، ثم ينعش نفسه بحمام ليجلس أمام مَن يقرأ له (وما أكثر مَن يحبون القراءة له، خاصة السيدات المثقفات). كانوا يقرؤون له مدة ساعة باللغة العربية، إضافة إلى ساعة باللغة الإنجليزية. وتتخلل ساعات القراءة ومضات تنطلق منه على شكل ملاحظات وآراء أو نكات هادفة!
لله درك يا فؤاد، يا درّة المحامين، ويا درة استثنائية من درر البشر. واليوم، بعد أن كنت تحامي عن العباد والبلاد وتستحصل لهم على حقوقهم، نراك اليوم وقد دخلت حمى الرب في السماء، فأصبحت أنت نفسك، هذه المرة، في حماية «الحق» الذي يعلو ولا يعلى عليه. فهنيئا لك المقام الجديد في السماء.. بعد أن كنت يا فؤاد حامياً أثيراً ونادراً من حماة الحق والعدل على امتداد رقعة كبيرة من الأرض الفلسطينية والأردنية. ألا بوركت في دنيانا الفانية، وبوركت في دنيا الآخرة.