ما دخل أحدٌ بيديه أو رجليه إلى مستنقع الحرب في سوريا إلاّ أُصيب. وأول المصابين بالطبع الرئيس السوري الذي كان أول من غمس يديه في الدماء هناك. وبالأمس دخل أردوغان ضمن الخائضين في الدماء السورية. لقد عمل من قبل بالواسطة، من خلال «الجيش السوري الحر» وفصائل المسلحين الأُخرى التركمانية وغيرها، لكنه اضطر للتدخل في عفرين بنفسه. واليوم وبعد أن حاول أكثر من ثلاث سنوات إقناع الأميركيين بمشروعه للمنطقة الآمنة، رأى أنّ الأميركيين لن يسايروا مشروعه، فأقبل ينفذه بمفرده.
ما حقيقة الموضوع؟ الأكراد وعندهم أكثر من مائة وخمسين ألف مقاتل في شمال وشمال شرق سوريا، لديهم سلاحٌ وتدريب جيدان نالوهما من الأميركيين خلال الحرب ضد «داعش». لكن هناك مسألتين تتعلقان بالأكراد. فعندما استولى الدواعش على ديارهم في شمال سوريا، كانوا منقسمين إلى أكثر من عشرة أحزاب، وكل حزب عنده مئات المسلحين. وهم من حيث «المشروع» ثلاثة أقسام: المتحالفون مع الثورة السورية، والذين يريدون حكماً ذاتياً أو ما هو أكثر، وفريق ثالث يميل لربط نفسه بالبارزاني في العراق. وإنّ أحداً من هؤلاء ما صرّح بالقطيعة مع النظام السوري باستثناء الذين حالفوا الثورة. المهم أنّ اجتياح «داعش» للديار فرض أولويات ما تجرأ عليها غير «الحزب الديمقراطي»، وما كان وقتها أكبر أحزاب الأكراد في سوريا، لكنه قبِل الاستعانة بـ«حزب الشعب» الأوجلاني الذي كان يملك ميليشيا قوية موزعة بين جبال تركيا والعراق (منطقة قنديل). ويقال إنّ بعض تلك الميليشيا تسلل إلى المنطقة الكردية في سوريا خلال سنوات الفوضى. وهناك أمرٌ ثالث وهو أنّ الأميركيين لم يترددوا وهم يقاتلون «داعش» من الجو في الاستعانة بالقوات الكردية (ومنها قوات «حزب الشعب») لقتال «داعش» على الأرض. والأمر الآخر أنه عندما استطاع الكرد المدعومون أميركياً إرغام تنظيم «داعش» على الانسحاب من مناطقهم، طردوا معه كثرةً من السكان العرب بحجة أنهم كانوا متحالفين مع التنظيم!
في عام 2017 استطاع التحالف الكردي الأميركي إخماد دولة «داعش» في سوريا. فعاد الأكراد المسلحون إلى التصدر على الحدود مع تركيا، فصارت عند أردوغان مشكلتان: الأكراد المسلحون على الحدود، وتنتشر بينهم القواعد العسكرية الأميركية الصغيرة.. والمشكلة الأُخرى: نحو أربعة ملايين لاجئ سوري بتركيا، ثلثهم مطرودون من مناطق الشمال السوري. لقد اقترح أردوغان على الأميركيين سحب الأكراد من مناطق الحدود، لإقامة منطقة آمنة يخرج منها الأكراد ويستقر فيها بعض اللاجئين السوريين عنده. وما وافق الأميركيون على الأمر، إذ معناه التخلي عن الأكراد الذين عملوا معهم منذ 2015. وقد كثرت شكوى أردوغان من تقاعس الأميركيين. وفي الأسبوع الماضي، وبعد حديث هاتفي بين أردوغان وترامب، أعلن الأخير أنه سيسحب قواته من شمال سوريا، وليفعل أردوغان ما يحلو له! وقد استشار أردوغان الروس، فتذمروا لكنهم ما عارضوا كثيراً.
بدأ الأتراك هجومهم مساء الأربعاء (9 أكتوبر)، وبدا أن هدفهم احتلال بلدتي رأس العين ورأس عيسى الحدوديتين وإرغام الأكراد على الانسحاب. وليس معروفاً بعد إلى أين سيمضي الأتراك من هناك؟!
ما بقي أحدٌ إلاّ استنكر هجوم أردوغان. وبعد الإيرانيين النظام السوري، كما دعا الدوليون لاجتماع مجلس الأمن، وأبو الغيط لاجتماع الجامعة العربية. وهدد ترامب وصديقه السناتور غراهام بفرض عقوبات اقتصادية على تركيا. وما بقي أحدٌ بالولايات المتحدة وأوروبا إلاّ وانتقد ترامب وسماحه لأردوغان بضرب الأكراد الشجعان الذين قاتلوا أعداء الولايات المتحدة من الداعشيين.
الحاصل حتى الآن أنّ عائلات كردية كثيرة غادرت رأس العين وراس عيسى، كما غادرت عفرين من قبل، باتجاه عمق المنطقة الكردية. والحاصل أيضاً أن الجميع ينظرون إلى موقف الروس وهل يوقفون أردوغان أو لا يوقفونه من أجل أن يزيد خلافه مع الرأي العام الغربي!

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت