تبدو تحولات القضية السورية أقرب إلى ما يسمى (مسرح العبث واللامعقول) والجميع في انتظار «غودو» الذي لم يأت، وهو الحل السياسي البسيط الذي رسم خريطة الطريق فيه، قرار مجلس الأمن 2254 الذي جاء على مبدأ شعبي يقول (لايفنى الذئب ولا يموت الغنم) وقد قبلت به المعارضة عامة لأنه حل وسطي، بعد أن تدخلت روسيا، وبعد أن ظهر تنظيم «داعش» وتنظيم «القاعدة»، وبعد أن رفعت قوى سمت نفسها (معارضة) شعارات لا علاقة لها بمطالب الشعب التي لم تتجاوز الحرية والكرامة وبناء دولة مدنية ديمقراطية خالية من العنصرية والطائفية، وهكذا وجد المطالبون بالحرية أنفسهم غرباء عن الساحة، بعضهم اعتقل، وبعضهم استشهد، وبعضهم هاجر، وباتت المعارضة السورية المتبقية تنفق من الوقت والجهد وحتى من الدم في مواجهة الشق الثاني ممن تسمّى بالمعارضة وبُدّل توجه بوصلتها، وتوجهت قوى كبرى من الشعب لمعارضة المعارضة.
وعلى صعيد دولي تم تجاهل المطالب التي حددها بيان جنيف، وكل قرارات الأمم المتحدة، وبقي المهجرون هائمين في الصحارى والحقول، وعلى بوابات دول الجوار يبحثون عن مأمن وملاذ وتضيق بهم الأرض بما رحبت، بينما تمكن المهجرون الأوائل إلى أصقاع الأرض من تحقيق استقرار مؤقت (ولاسيما المهجرين إلى أوروبا)، وبقي آلاف المعتقلين في السجون، ومئات الآلاف من الأطفال في المخيمات بلا مدارس، وملايين الأسر السورية في الداخل تعيش حالة فقر مدقع، ولا تتوافر لها مقومات الحياة الطبيعية، وقد انخفض الدعم الإغاثي الدولي، بل توقف في أماكن كثيرة، كما أن تجارب المصالحات أخفقت، كما في إدلب وأرياف حلب وحماه، وبات ملايين السوريين في حالة ضياع، ولم يعد العقلاء والحكماء قادرين على الخروج من هذا المأزق التاريخي، فقد تداعت عليهم أمم شتى، وفقد كثير من المعارضين السوريين ثقة الشعب بهم، وقد فقدوا السند المتين حين كان «الجيش الحر» يسيطر على نحو ثمانين في المئة من مساحة سوريا، فتوجه بعضهم لتلبية المطالب الدولية الحاضنة، وانكفأ عدد كبير من المعارضين واعتزلوا الساحة المضطربة التي سادت فيها فوضى عارمة، واكتظت وسائل التواصل بالشتائم والتخوين، واختلط الحق بالباطل، والحابل بالنابل، وبات بسطاء الناس وهم الأكثرية المسحوقة في الشمال السوري تائهين حائرين لايعرفون بمن سيثقون، فهم يدركون أن كثيراً من دعاة الإسلام جعلوا منه ستارة لأهداف لاصلة لها بأهداف الشعب، وهم يخشون من استعادة النظام لمناطقهم خوفاً من الاعتقال والانتقام، وقد سدت في وجوههم بوابات النزوح والهجرة خارج سوريا، وقد هرب مئات الآلاف من ريف حماه بعد المعارك الأخيرة لاجئين إلى أغصان الزيتون في ريف إدلب، والشتاء على الأبواب ينذرهم بالوحل والبرد والجوع والموت، ولا معين لهم اليوم من البشرية.
وفي شرق الفرات ثمة احتمال نزوح ضخم مع توقع بدء المعارك، والمفجع أن ما غرقت فيه سوريا من مستنقع دم ودمار لا علاقة له البتة بما نادت به المظاهرات الشعبية الأولى، وكل ما نخشاه أن يفقد السوريون بلدهم الذي بات أرضاً يباباً، بسبب التعنت، والاستقواء بالخارج، إنها حالة ضياع لا مخرج منها إلا باستعادة اللحمة الوطنية بين السوريين، والارتقاء فوق شهوات السلطة والنفوذ، وواهم من يظن نفسه منتصراً في محيط من الدم والدمار.