تعتبر الصحة النفسية جزءاً لا يتجزأ من صحة الإنسان وعافيته، فالصحة المكتملة هي حالة من اكتمال السلامة، بدنياً ونفسياً واجتماعياً، وليس فقط انعدام المرض والعجز. وتعرّف الصحة النفسية على أنها «حالة من العافية يستطيع فيها كل فرد إدراك إمكاناته الخاصة، والتكيف مع حالات التوتر العادية، والعمل بشكل منتج ومفيد، والإسهام في مجتمعه المحلي».
وعلى خلفية هذا المفهوم للصحة النفسية، تعتبر الأمراض العقلية من أهم قضايا الصحة العامة والمجتمعية، ومن أكثر الاضطرابات الصحية انتشاراً في دول العالم قاطبة، حيث قدّر تقرير صدر سابقاً عن منظمة الصحة العالمية أن 450 مليون شخص حول العالم يعانون من أحد أنواع الاضطرابات العقلية، وأن واحداً من كل أربعة أشخاص أو ربع أفراد من الجنس البشري، تعرض في مرحلة ما من حياته للإصابة باضطراب عقلي أو نفسي.
وأمام هذا الانتشار الواسع للاضطرابات العقلية، تم تخصيص يوم العاشر من أكتوبر من كل عام، كيوم عالمي للصحة العقلية، كمبادرة من الرابطة الدولية للصحة العقلية، وهي منظمة عالمية تضم بين أعضائها ممثلين عن أكثر من 150 دولة من دول العالم، وتتخذ من عبارة «لا صحة بدون صحة عقلية» شعاراً لها. وفي هذا اليوم، تُقيم العديد من الجهات والمؤسسات الحكومية، والمنظمات الخيرية والتطوعية العاملة في مجال الصحة العقلية، فعاليات وأنشطة عدة، لزيادة الوعي العام بالاضطرابات العقلية، ولنشر الثقافة الفردية والمجتمعية بجوانب الصحة العقلية، ودحض ومكافحة الوصمة التي يوسم بها المصابون بأحد أنواع تلك الأمراض.
فعلى عكس الاعتقاد الشائع، والخاطئ، لا تقتصر محددات الصحة العقلية على الصفات والسمات الشخصية، مثل القدرة على التحكم في المشاعر، وضبط السلوك، وسبل التفاعل مع الآخرين، بل تعتمد أيضاً على عوامل اجتماعية، وثقافية، واقتصادية، وسياسية، وبيئية، مثل مستوى المعيشة، وظروف العمل، والسياسات الصحية، والدعم الاجتماعي، وهي كلها محددات تؤثر بشكل واضح في احتمالات الإصابة بالاضطرابات العقلية، وفي مستوى الصحة النفسية. ويمكن أيضاً لمستوى التوتر في الحياة الشخصية، والتركيبة أو العوامل الوراثية، والإصابة بأمراض معدية أثناء الحمل، والتعرض لملوثات ومخاطر بيئية، أن تكون من محددات الصحة العقلية، وعوامل خطر خلف الإصابة بالاضطرابات العقلية.
واتخذت الرابطة الدولية للصحة العقلية الوقاية من ومنع الانتحار، كمحور وموضوع اليوم العالمي لهذا العام. ويأتي هذا الاختيار على خلفية كون الانتحار مشكلة صحة عامة دولية بكل المقاييس، تتطلب أقصى درجات الاهتمام من جميع الفاعلين في مجال الصحة، بما في ذلك الجامعات، والمنظمات العلمية والمهنية، والمؤسسات العاملة في مجال خدمة المرضى وعائلاتهم.
الصحة العقلية يجب أيضاً أن تحظى بقدر كبير من الاهتمام من نظم الرعاية الصحية الوطنية، بناء على أن من ضمن مسؤوليات تلك النظم وضع السياسات وإصدار التوصيات الهادفة إلى تأسيس استراتيجيات لمنع الانتحار، ودعم ومساندة الصحة العقلية للمجتمع بوجه عام. وللأسف، لا زالت معظم نظم الرعاية الصحية حول العالم، عاجزة عن الاستجابة بالشكل الملائم والكافي للعبء المرضي المصاحب للاضطرابات العقلية. وكنتيجة لذلك، توجد حالياً فجوة هائلة في غالبية دول العالم، بين عدد مرضى الاضطرابات العقلية وبين المصادر المتاحة والمتوافرة.
كما تلعب وسائل الإعلام والتواصل بمختلف أنواعها وأشكالها، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية، دوراً محورياً في تحقيق الأهداف الوطنية للصحة العقلية المجتمعية، انطلاقاً من أن مشاركتها إما أن تكون إيجابية، أو سلبية، بناء على المقاربة التي يتم من خلالها تناول مواضيع الصحة العقلية، والأسباب التي تدفع البعض للانتحار.
وجدير بالذكر أن السياسة الوطنية للصحة النفسية في دولة الإمارات، والتي اعتمدت من مجلس الوزراء، حددت 5 أهداف استراتيجية رئيسية، تشمل: تعزيز فعالية الجوانب القيادية في مجال الصحة النفسية، وتطوير وتعزيز وتوسيع نطاق خدمات الصحة النفسية الشاملة والمتكاملة والمستجيبة للاحتياجات والموجهة للمجتمع بفئاته وأعماره كافة، وكذلك تعزيز التعاون متعدد القطاعات لتنفيذ سياسة تعزيز الصحة النفسية. كما تضم السياسة الوطنية أيضاً تعزيز الوقاية من الاضطرابات النفسية لفئات وأعمار المجتمع كافة، وتعزيز القدرات وتحسين نظم المعلومات، وجمع واستخدام وتفعيل البيانات، وإجراء البحوث الخاصة بالصحة النفسية بغرض تطوير خدماتها. ومن بين الإجراءات والخيارات التي تضمنتها استراتيجية السياسة الوطنية للصحة النفسية: توفير خدمات الصحة النفسية للمرضى الخارجيين، وتطوير وحدات الصحة النفسية للمرضى الداخليين في مستشفيات الصحة النفسية، وإنشاء خدمات الصحة النفسية المجتمعية، ومنها خدمات التوعية، وخدمات الرعاية والدعم المنزلية، والرعاية في حالات الطوارئ، وإعادة التأهيل المجتمعي.